ذاكرة طالب قبل 50 سنة في مدرسة الفلاح بالقطيف قطار فصول في مستطيل وسط غابة.. وقائمة من معلّمي السبعينيات
علي سعيد البيك
هذه مدرستنا، مدرسة الفلاح الابتدائية، تحتضنها النخيل الباسقات، قبل أن ألتحق بها ببضع سنوات، وقد أججت في قلبي الذكريات، ما أجملها وأبهاها!
انظر يمين الصورة هذا جانب من حي الوسادة يتشكل، مساحات مخططة لبدء بناء البيوت، وبيتنا هناك في أقصى اليمين، وانظر خلف المدرسة جهة الغرب، غابة من نخيل حيث ملاعب الصبا، وذكريات الزمن الجميل، للأسف هي ساحة خالية الآن.
من جهة الجنوب هذه النخيل الجميلة هي حي المدني الآن، وبوابة المدرسة الشامخة تطل على شارع الإمام علي عليه السلام، وأمامها مباشرة مصنع الثلج وخلفه حي البستان، بعدها بسنوات تقلص النخل وشُيدت البيوت وفُتحت المحال التجارية، وأهم محل هو مخبز أبو السعود الحديث، الذي نتذكره و نتذكر مناقيش الزعتر اللبنانية التي يتميز بها، ورائحتها الشهية كلما قرأنا عبارة (مناقشة) نهاية كل درس من دروس المطالعة.
أنشأت وزارة المعارف مدرسة الفلاح الابتدائية بالقطيف عام 1382هـ، وفي عام 1395هـ (1975م) التحقتُ بالصف الأول، كنت أذهب إلى المدرسة مبكراً وماشياً مثل كل التلاميذ، حيث تستقبلك المدرسة ببوابة حديدية كبيرة ذات جناحين مشرعينِ ترحيباً بك، يظلل البوابة سقف إسمنتي على شكل مظلة مستطيلة، مرتكزة إلى عمودين ضخمين للبوابة، وتطالعك لافتة كبيرة كُتب فيها اسم المدرسة بخط الثلث الجميل.
تدخل المدرسة تجد على يمينك ساحة صغيرة فيها بعض المزروعات ومجموعة من القصب “القصيب” طوله أطول من مترين، ينمو بفضل التربة الزراعية وتجمع مياه الأمطار في تلك البقعة، وعلى يسارك كشك صغير هو مقصف المدرسة وبعض صناديق “أغراش” البيبسي، التي لم يكن ممنوعاً بيعها في المدرسة آنذاك.
ثم يواجهك مبنى المدرسة الرئيس ذي الطابقين، وهو على شكل قطار ممراته مفتوحة على الهواء والشمس، وفي رأس القطار الإدارة وغرفة المعلمين، وللإدارة باب خلفي يطل على حديقة صغيرة تتوسطها شجرة كبيرة.
اسم الإدارة والمدير يثير الرهبة في نفسك مثل كثير من التلاميذ المهذبين، حيث هيبة مدير المدرسة الأستاذ صالح محمد الرويشد من الأحساء، والوكيل أبو وسيم عبد الحميد آل محمد علي من تاروت.
وفي الطابق الأرضي من المبنى الرئيسي فصول الصف الثالث والرابع، وفي الطابق العلوي فصول الخامس والسادس، وربما يتغير التوزيع أحياناً، وفيه غرفة مفتوحة من الأمام لتكون مسرحًا تقدم فيه بعض الفقرات الإذاعية والمسرحيات.
والمبنى مفتوح على الساحة الرئيسة للمدرسة، وهي ترابية وبجانبها ساحة أخرى رصفت بالإسمنت الخاص بالملاعب في ذلك الوقت. وتمتد الساحتان حتى سور المدرسة الجنوبي، وفي جهة الغرب مبنى آخر، ولكن من طابق واحد مخصص للصف الثاني وربما فصل أو فصلين من الصف الثالث، وهو منفصل عن المبنى الرئيس ويطل على الساحة الإسمنتية التي يكون فيها الطابور الصباحي.
وهناك مبنى ثالث استحدث بعد بناء المدرسة في الزاوية الجنوبية الشرقية للمدرسة مكون من طابقين، واجهته مصنوعة من الألمنيوم ذي طراز جديد ومغلق وبنوافذ زجاجية أنيقة، ربما بنته شركة أرامكو، يسمى برتبول من الكلمة الإنجليزية portable وتعني متنقل أو قابل للحمل؛ لأنه مصنوع بالكامل ومركب مثل البيوت جاهزة الصب، وهو مبنى حديث كما قلت وأنيق جداً، وأثاثة جديد ومميز، لطالما أدهشني هذا المبنى الفخم، وهو مخصص للصف الأول، وقد درست فيه، وفي الطابق العلوي غرفة الفنية، ومن جهتها الشمالية غرفة الرياضة.
أما أساتذتي من الصف الأول حتى الصف السادس، فأذكر منهم الأساتذة صلاح المدني من فلسطين، وعلي مطر، ورضوان الشيخ، والتيجاني خليل من السودان، ومحمد إبراهيم مرعي معلم الحساب من فلسطين، وفهمي حجازي أظنه من سورية، ويوسف لطفي شحاتة، وعبد المعطي سلمان، وأستاذ شريف المصري معلم الفنية، كما أذكر الأستاذ البناوي من القطيف الذي كان يوزع الشكولاتة مع الشهادات، والأستاذ قاسم الشبيب من أم الحمام، وسيد إبراهيم الشرفاء، ومن أشهر معلمي الرياضة في المدرسة نجم نادي الهلال ومدرب نادي الترجي الأستاذ عبد الرحمن القصاب المشهور بشمروخ، رحمهم الله جميعاً، وأطال بقاء الأحياء منهم.
ومن طرائف التيجاني بشير معلم العلوم في الصف الرابع، أنه كان يشرح درس الهيكل العظمي في الإنسان، ولم يجد وسيلة تعليمية، فطلب بلطف من تلميذ نحيل جداً قد برزت عظام قفصه الصدري المساعدة، وافق التلميذ بشيء من الخجل، فطلب منه المعلم الخفيف الظل أن يقف على الكرسي ويفتح صدره ففعل، ثم بدأ يشرح مع ملاطفة التلميذ وشكره.
ولازال عالقاً بذاكرتي معلم زرع في نفسي حب اللغة العربية هو فهمي الحجازي، الذي تميز بهدوئه ولطفه وأسلوبه الجميل في الشرح، وكان يقرأ لنا من كتاب قصص الأنبياء ويبسطها لنا وغيرها من القصص وذلك بعد انتهاء الدروس، كنا ننتظر حصصه بفارغ الصبر.
كتاب الهجاء الابتدائي
هكذا كان اسمه، أول كتاب درسناه في تعليم القراءة والكتابة في الصف الأول الابتدائي عام 1975م تأليف عبد الكريم أبو دفّ وهو فلسطيني من غزة، وهذا الكتاب ملون وموضح بالرسومات، تطالعك في الصفحات الأولى صورة المغفور له الملك فيصل أولاً ثم صورة الملك خالد الذي تولى الحكم قبل شهور قليلة، ثم رسومات تمهيدية، وأول الدروس كلمة (راس) مكررة، ثم دار ودور، ثم راس وروس ودار ودور وهكذا، وفيه كلمات غريبة أسمعها لأول مرة: (كوزـ كوخ ـ كانون نارـ بوق…) فأنا لا أدري ما الكوز والكوخ، ولم أرَ بوقاً ولا أعرف أن للنار كانوناً، كبرت وعرفت أن العشة “المرتبة” تسمى كوخاً، وأن أهل غزة يُطلقون اسم (كانون النار) على الموقد الذي يُصنع من الحديد أو الطين أو الحجر، وقد تعجبت من جملة (فراش شريف من صوف) كيف يكون الفراش من الصوف؟!، ونحن لا نعرف إلا الشرشف في الصيف و(الكنبل) في الشتاء، كلمات كثيرة في كتاب الهجاء شغلت رأسي الصغير آنذاك، وفي الكتاب تبدو ثقافة المؤلف جلية.
وكذلك أستاذ صلاح معلم فصلنا لقد جاء بثقافته من حيث الحرص على الانضباط في الفصل بتعيين عريف شاطر وتطبيق القوانين المدرسية كاملة بحزم، فلا يُسمع للتلاميذ حسّ بحضرته، وتتجلى ثقافته الفلسطينية في كلماته وتعليقاته من ” التبشورة” إلى ” ألف باء بوباية، نصّ رغيف وكوساية…”، و”بِستحي مِن خَيالُه ” للتلميذ الخجول، و” ذَكَرنا القُطّْ، طِلْعِ ينُطّْ” للتلميذ المرح والنشط، و “اجتمع المتعوس على خايبِ الرَّجا” للتلميذين المشاغبين إذا اجتمعا، واسمعوا مني هذه النصيحة “رافِق الْمِفلِح بتِفلَح”.
وكانت أناشيد الصف الأول ساذجة لكنها لطيفة في ذلك الوقت، على شاكلة: صاح الديكُ فوق السور كوكو كوكو بان النور، وما زلت أتذكر نشيداً طلب منا معلمنا أستاذ صلاح أن نحفظه، صدره: آه لوكنت أطير مثل عصفور صغير!،كنت أترنم به فاتحاً ذراعي كجناحين وأُحلِّق في فضاء من البهجة والشعور الجميل، وكلمة عصفور هذه ذكرتني بطرفة ساذجة من طُرف الكتاب، بعنوان (التلميذ الرسام)، طلب الأستاذ من التلميذ أن يرسم عصفوراً على غصن شجرة، رسم أحمد غصناً وما رسم عصفوراً، أين العصفور يا أحمد؟، قال أحمد: طار يا أستاذ!
ريال فلسطين
بمناسبة ذكر المعلمين الفلسطينيين أذكر (ريال فلسطين) وهو وصل استلام (كرت) بحجم الريال مكتوب فيه أنه لرعاية أسر مجاهدي وشهداء فلسطين، وقد كان يوزع علينا وعلى مختلف المراحل الدراسية في المملكة، فربما نتنازل عن مصروفنا اليومي من أجل المساهمة في نصرة أهلنا في فلسطين، وأتذكر أن أخي محمداً أخذته الحماسة العروبية فاشترى دفترا كاملا منه.
وشاهدي على ذلك الكاتب حسين السنونة في مجموعته القصصية الجديدة (نساء قريتي لا يدخلن الجنة) قصة بعنوان (ريال فلسطين.. سمكة كبيرة) تتحدث عن تلميذ تنازل عن شوكولاتة “البونتي” الذي يعشقه من أجل شراء ريال فلسطين، ورجع إلى بيته جائعاً فكافأته أمه بسمكة كبيرة، وأجد القصة واقعية، ومما جاء فيها:” كنت في الصف الثاني الابتدائي، وكانت المدرسة تضم معلمين من كل الدول العربية، لكن كان للمعلم الفلسطيني صوت مختلف وحيوية متجددة، وأفق يجعل له حضوراً قويًّا، يصادق الجميع طلاباً ومدرسين، أكثر حديثه عن فلسطين، وكذا في الإذاعة المدرسية الصباحية كونه المسؤول عنها، وكثيرا ما يثني على الملك فيصل واهتمامه بقضيتها”. (الانتشار العربي، 2023، ص15)
رحلة إلى جزيرة تاروت
كنت على وشك الطيران فرحاً حين اختارني المعلم ضمن من اختارهم للاشتراك في رحلة مدرسية إلى جزيرة تاروت، وسلمني ورقة الرحلة؛ قلت في نفسي: “رحلة! وإلى تاروووت يا سلام!..” كنت اسمع بها كثيراً ولم أراها، أحسب أنه لم يغمض لي جفن ليلتها من الفرح، فالفرح الشديد كالحزن الشديد عدو للنوم، باكراً ذهبت إلى المدرسة، والطير في وكناتها كما قال شاعر قديم، حاملاً معي كوباً للشاي كما وصنا المعلم فلا حاجة لأخذ كاسات ورق أو غيرها، أقبلت على المدرسة مع طلاب الرحلة كسرب حمام، وإذ بعض المعلمين وعمال المدرسة يجهزون أغراض الرحلة ويركبون الخروف سيارة “الوانيت” الذي سيجهزونه ويطبخونه بأنفسهم في جوٍّ احتفالي، فشعرنا بفرحة غامرة، وانطلق بنا الباص إلى تاروت ووصلنا إلى بستان جميل كجنة خضراء وطيور غنَّاء بالقرب من مسجد الخضر عليه السلام، وكانت رحلة لا تنسى حيث لعبنا وسبحنا في عين ماء ارتوازية ماؤها عذب ومنعش، واستمتعنا بالغداء اللذيذ، وبأجواء البستان الجميلة، من الصباح حتى قبيل الغروب، ورجعنا مترنمين ” رحنا وجينا سالمين طلعنا رب العالمين”، والبعض يردد أنشودة (بلادي منار الهُدى)التي كنا نسمعها من الإذاعة والتلفزيون السعودي، والذي نظمها الشاعر اللبناني سعيد فياض عام 1975م وكانت بمثابة النشيد الوطني آنذاك:
بلادي بلادي منار الهُدى
ومهدُ البطولةِ عَبر المدى
عليها ومنها السلام ابتدَا
وفيها تألقَ فجرُ الندى
غرة صفر/1445هـ
ماشاءالله ذاكرة حديدية..لكن نسيت ذكر الأستاذ الفلسطيني محمد عبد الحفيظ عبدالله..الأستاذ الرائع الملتزم صاحب الفضل على كثير من جيلنا حفظه الله ..كان أستاذا فاضلا رائعا لن يتكرر .
انا كنت من سكان حي المدني ودرست في هذة المدرسة قبل تقريبا ٤٠ سنة وكانت من أجمل الايام ومع أجمل الطلاب. كان من ضمن طاقم التدريس على ايامنا الاستاذ علي ال سيف والاستاذ زكي العوامي والاستاذ علي سعيد الصفار (ابومازن) وغيرهم. ما شاء الله استاذ علي على الذاكرة الثرية التي اجدت فيها وصف المدرسة بدقة. واضح انك كنت من الطلاب المتفوقين المهذبين وبعيد عن الطلاب المشاغبين.
أعجبت بالذاكرة الحديدية التي استطاعت ان تعود خمسين سنة للوراء لتقف على كل زوايا المدرسة ومدرسيها.
كيف استطاعت هذه الذاكرة ان تستحضر كل هذه المعلومات الدقيقة فعلا إنها ذاكرة حديدية.
شكرًا للاستاذ علي على هذا المقال الجميل
الاستاذ صالح محمد احمد الرويشد كان مدير مدرسة الفلاح بالقطيف وكان رحمة الله عليه من أهل الاحساء وكان ساكن في حي النخيل بالدمام شارع الملك سعود وتقاطع الشارع 13 في الدمام خلف حي صالح اسلام هذه كانت منطقتي ومنكقة طفولتي وكانو اهل الاحساء يسكنونون في هذه المنطقة وحي الجلويه على امتداد شارع الملك سعود وحتى شارع الملك خالد رحمة الله عليهم طبعا نحن كنا سكان حي الجلويه لان والدي رحمة الله عليه كان يعمل في ارامكو وادارته بالتحديد في الظهران وامي رحمة الله عليهم اجمعين كانت الرابعة ووافقت على السكن في الدمام وباقي زوجاته في الاحساء طبعا وبكل فخر بنت الاحساء تعيش مع زوجها في أي مكان وزمان وهذه ميزه جدا ونادرة تلقاها الصباح ومن بعد صلاة الفجر نجهز الفطور لابناؤها وبناتها قبل الذهاب للمدرسة كم أنتي عظيمه ياامي وكم انت عظيم يابوي رحمة الله عليكم جميعا ورحم الله جميع المسلمين امين يارب العالمين الأخ الفاضل بي مقالته هذه عن الماضي ذكرني بطفولتي وريعان شبابي والان أنا جد ولكن يظل الماضي التليد هو أحلى شيء في الوجود طبعا كانت ايام قاسيه والدراسة فيها صعبة والمدرسين لهم احترامهم وتقديرهم وكان الطالب السعودي المتفوق يأخذ شهادات التفوق ويعمل له حفل تخرج في المدرسة الثانوية وبعدها يقدم على الابتعاث الخارجي وجميع مصاريفه وسكنه على حساب الدولة اعزها الله ولقد حضيت بهذه المكرمة الغالية والحمد لله درست ثم تخرجنا وعدنا وخدمنا ديننا ومليكنا ووطننا الغالي والحمد لله متقاعدين الان ومازلنا تحت أمر حكومتنا الرشبده الى اخر يوم في حياتنا ودمتم سالمين اخوكم ابو فيصل
ذكريات مع الزملاء في مدرسة الفلاح او النعامي سابقا ، التحقت بها عام ١٣٨٥ على ما اذكر .. الزمن الجميل
احب اقرا الذكريات القديمة
احسنت ..كل هذه الذكريات عشناها تقريبا مع نفس المعلمين ونفس المبنى بتقاسيمه المذكورة
..اما رحلتنا نحن كانت الى الجبيل …وفي باص المرحوم ابو عزيز ..الاصفر
ذكريات محفورة في الذاكرة …شكرا لك اخي استاذ علي لانك احييتها وجددتها
نعم ايام مضت انا احد الطلاب الذين درس مع علي سعيد البيك وكانو المدرسين من اشد واقسى المدرسين نحنو لاحولا ولاقوة
كانت تسمى مدرسة النعامي قبل الأسم الرسمي مدرسة الفلاح
جميلة هذه الذكريات استاذ ابو حسن
جميل من يذكر فضل من احسن إليه ومن يذكر مدرسيه فهم اسسوه لصنع مستقبلة ولبناء جيل جديد
حينما تسيطر علينا ذكريات نحن لها وكانها شريط سينمائي متسلسل الأحداث وخصوصا عندما اقتني الشي الملموس كالصور والدفاتر وووو .
واجمل الذكريات هي فترة الطفولة وبعدها الصبا اذهاننا خالية من متاعب الحياة ولا نعلم بها نعيش حياة جميلة نحلم وعند النوم تغفو اعيننا ونحن نرتقب الجميل دمت بخير استاذ
شكرا أخي الأستاذ الفاضل أبو حسن على الذكريات الجميلة،
ممكن تخصص حلقة خاصة بالوجبات المدرسية المجانية
يوميا كانت شاحنة تموين كبيرة تدخل ساحة المدرسة
ويتم تنزيل كراتين الوجبات المغلفة والمعقمة .