السيد حسن العوامي.. الرمز الوطني الكبير

زكي علي الصالح

  في مجلسه يلتقي الأضداد والمختلفون ويجلسون جنباً إلى جنب، وهذه ميزة لا تجدها في مجالس كثيرة إلا إذا كان أصحابها يملكون شخصية متقبِّلة لجميع الآراء، ومنفتحة على جميع الأطياف والاتجاهات كشخصية الوجيه والأديب المعروف السيد حسن العوامي “أبو زكي” مدّ الله في عمره ، ولا عجب في ذلك؛  ففي بداية معرفتي بالسيد سألته عن السر في شخصيته الجامعة التي جمعت من حولها كل ألوان الطيف القطيفيّ، فرد علي بالبيتين الشهيرين  لمحي الدين بن عربي:                                         

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبانِ

وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ

وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ

تعود معرفتي بالسيد “أبي زكي” إلى عام 1989 م، والفضل في ذلك يعود إلى الأخ والصديق زكي بن حسن العبدالجبار ، كنا وقتها نحرص على زيارته بشكل دائم ومستمر؛ لمعرفة رأيه في قضايا الشأن العامّ  والاطلاع منه على أوضاع البلد وأخبار الحراك المطلبي الذي يقوده مع بقية شخصيات القطيف عبر الانفتاح والتواصل مع المسؤولين، وكان السيد كريماً ومتواضعاً معنا لم يبخل علينا يوماً بما لديه من أخبارومعلومات عن الشأن الاجتماعي الخاصّ والعام، في تلك المرحلة ، حيث لا إنترنت ولا منتديات ولا وسائل تواصل اجتماعي، وفي ظل قطيعة حادة وحصار فرضته نخب القطيف على أتباع المدرسة الفكرية التي كنا ننتمي لها، لم يكن في نخبة “الحاضرة القديمة” للقطيف غير السيد الذي فتح بابه وقلبه لأتباع تلك المدرسة، ومحضهم حبه وصداقته ورعايته لهم والاحتفاء بهم في مجلسه، متحملاً في سبيل ذلك عتاب القريب وغضب البعيد، لا سيما وأن الانتماء لتلك المدرسة في فترة الثمانينات كانت سُبة لدى البعض وتهمة لدى البعض الآخر، لكن السيّد بفكره المستنير وروحه الوطنية الجيّاشة والغيورة على جميع أبناء المجتمع الواحد، عمل على تهيئة المناخات وتبديد الهواجس والأوهام لدى جميع الأفرقاء المشتغلين بالشأن العام، كل حسب رأيه وموقعه.                                                                                                   

في أوج صحته ، كان يندر أن تجد حراكاً مطلبياً سواء على صعيد القطيف المحلي أو الشيعي العام لا يكون للسيد دور محوري فيه، ولا وفداً متوجهاً لمقابلة المسؤولين مطالباً بالحقوق والخدمات للطائفة والمنطقة إلا والسيد في مقدمته، كان رأيه في مجمل القضايا العامة والخاصة محل اهتمام وسؤال المنشغلين بالشأن العام، وكان السؤال الدائم الذي يتبادر عند النقاش حولها “ما هو رأي السيد ؟”.                                                        

عند احتلال صدام الكويت في شهر أغسطس عام 1990 م وتهديده لأمن البلاد، وعزف إعلامه الموجه على وتر مظلومية الشيعة في السعودية وتحريضه إياهم على الخروج على حكامهم، عرض عليَّ الأخ والصديق الدكتور حسن بن عبد المجيد الفرج فكرة إعداد عريضة شعبية نبين فيها نحن المواطنين الشيعة موقفنا من هذه الدعوات ونعلن فيها استعدادنا للدفاع عن الوطن وحماية حدوده من الاعتداء، فاستحسنت هذه الفكرة، ولا سيما نحن في أتون لحظة تاريخية ولا بد لنا فيها من موقف يكشف عن حقيقة تفكيرنا ومشاعرنا الوطنية تجاه هذا الحدث الهام والخطير، ومثل هذا العمل الوطني لا يمكن أن يتم دون أخذ مشورة السيد وطلب دعمه، وإلا فلن ننجح بمفردنا في إنجازه؛ فذهبنا برفقة الصديق زكي العبد الجبار إلى السيد وعرضنا الفكرة عليه فأيدها وشجع عليها، وناقشنا سوياً مسودة صياغتها وخطة جمع التواقيع عليها، ثّم تقاسمنا الأدوار وانطلقنا للعمل، حتى أنجزت، وجاء دور تسليمها، فطلبنا من السيد لمكانته أن يقوم هو بذلك، إلا أن الوقت لا يحتمل التأخير؛ فطبول الحرب تدق بعنف، والأحداث تجري بوتيرة متسارعة، عندها استقر الرأي على إرسالها برقياً حيث تلقتها قيادة البلاد بترحيب كبير، وردت عليها ببرقية جوابية شكرت فيها وثمّنت لأهل القطيف صنيعهم وموقفهم هذا.

هذه التجربة كانت من أبرز المحطات في تاريخ  علاقتي بالسيد أو “المعلم” كما كنت أناديه أحياناً؛ فهو صاحب مدرسة في العمل الوطني، تعلمت منها أنا وغيري الكثير من الدروس والعبر، ولطالما كنت ألّح عليه بكتابة مذكراته؛ لتتعرف الأجيال القادمة على نضاله وتستفيد من خبراته.                                                                                          

والسيد إلى جانب انغماسه في الشأن العام كانت له جهوده الإصلاحية، على صعيد تعليم المرأة، والمنبر الحسيني، والقضايا والمشكلات الاجتماعية، فقبل بداية كل عام هجري – وقبل إن يهل شهر محرم الحرام – يقوم السيد حسن بإرسال رسالة إلى خطباء المنبر الحسيني في المنطقة يضمّن فيها ملاحظاته على أداء الخطباء ومواضيعهم، ومسلطاً الضوء على ظواهر ومشكلات اجتماعية مستجدة أو قديمة مستفحلة، مركزاً فيها على ما يهم المرأة والشباب، ويعمم في نشر تلك الرسائل السنوية على كثير من رجال الدين والمثقفين والناشطين الاجتماعيين، والتاريخ يحفظ للسيد بأنه هو ومجموعة من رفقائه أول من حمل راية تعليم المرأة بالقطيف، وسعى إلى تأسيس أول مدرسة “أهلية” للبنات عام 1379هـ.

للسيد صفاته الأخلاقية الكثيرة التي يضيق المجال هنا للتطرق إليها جميعاً، إلا إن الأميز فيها صفتان – كما أراهما في شخصيته – هما : تواضعه وكرمه ، من تواضعه ؛ وهو الشخصية المرموقة في القطيف، وجيه، وكاتب، وأديب، وسليل عائلة علمية معروفة، معاملة الناس دون تكلف أو حدود مصطنعة، لاغياً جميع الفوارق الطبقية والعمرية والثقافية بينه وبين من يجالسه ويخالطه.                                                        

 عندما تعرفت عليه كنت أنا في منتصف العشرينات، بيني وبينه أربعة عقود  من العمر، وفارق شاسع في الخبرة والمكانة ولكنه لم يشعرني يوماً بتلك الفوارق، أتذكر ذات مرة سألني شخص من خارج المنطقة  إذا كنت أعرف المهندس زكي العوامي فقلت له نعم أعرفه والده صديقي، فظن بأني لم أعرف من عنى  فصار يعطي توضيحات أكثر دلالة على شخص المهندس زكي، وأنا في كل مرة أجيبه نعم هو من قصدت، فسألني كيف يكون والده صديقك وابنه المهندس زكي أكبر منك في العمر؟! فقلت نعم هو ذاك ، ولا عجب فالفضل يعود إلى شخصية السيد حسن العوامي المتواضعة. 

 أما عن كرمه؛ فهو كريم بماله وأخلاقه وخبراته ووقته وتراثه، لا يتوانى أن يضع بين يدي من يقصده من الباحثين جميع ما في إرشيفه من المراسلات والوثائق التاريخية وهذا الكرم لا يجود به كثير من أصحاب الأراشيف التراثية وملّاك الوثائق التاريخية.

لا شك أن تراجع صحة  السيد حرم ساحة العمل الوطني والاجتماعي من عطاءاته وخدماته الجليلة وعطل دوره في خدمة الناس إلا ان قلبه الكبير بالرغم من مرضه ما زال ينبض بحبهم ويتسع لهم جميعاً.

 في يوم تكريم السيد حسن العوامي ، أقدم  تحية  إجلال وإكبار لهذا الرمز الوطني الكبير ، شاكراً له كرم أخلاقه ونبله معي ولجميع جهوده الخيرة في سبيل خدمة مجتمعه وبلده ، سائلاً المولى عز وجل أن يطيل  في عمره وأن يمنَ عليه بالصحة  والعافية.

تعليق واحد

  1. مقال رائع من الاستاذ زكي عرفتنا اكثر بشخصية وطنية بامتياز كان لها ومازال الدور الاجتماعي الفعال والحضور الوجهائي النافع لمجتمعه ووطنه .. نسأل الله ان يمد في عمره ويستفيد من خبراته الجيل الناشئ من ابناء المجتمع العاملين في الشأن العام والساعين لمنفعة مجتمعاتهم

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×