المنبر الفكري.. البوصلة غرباً
محمد الشافعي
استهل السيد منير الخباز موسم محرم لهذا العام باستئناف منهجه الذي بدأه منذ أعوام، والذي يرتكز على إعادة طرح القضايا الدينية في قوالب “حديثة”، مستشهداً بنظريات غربية تكاد بذلك أن تعلمن المقولات والموضوعات الدينية.
لا يتوقف الأمر على السيد الخباز وحده، بل أن هذه المنهجية وقع في فخها الكثير من الخطباء والكتاب الذين وجدوا أنفسهم مشتبكين مع واقع صنعته مفاهيم الغرب التي لاقت رواجاً عبر التمثلات التي تفرضها حياتنا اليومية في لحظة العولمة الفائضة بكل امكانياتها التقنية.
وفي سياق محاولتهم لتنسيج خطابهم الديني مع هذا العالم، لجأوا إلى استعارة قاموس الفلسفة الغربية والعلوم الإنسانية غربية التوجه، معتقدين بحياديتها ومعتقدين بإمكانية توظيفها كأدوات باعتبارها مجرد مفردات لغوية.
لكن الواقع أن هذه الأطروحات والنظريات التي بات أصحابها تتردد أسماؤهم على المنابر الدينية، ليست محايدة، بل مثقلة بحمولات ايديولوجية ثقيلة بحكم سياق تكونها الغربي.
وبالعودة للسيد الخباز، فقد حاول في باكورة محاضراته لهذا الموسم، مقاربة التوقعات من الدين وذلك عن طريق ربط احتياجات الإنسان بوظائف الدين. ولم يجد محاضرنا سوى هرم ماوسلو لسرد تلك الاحتياجات.
لسبب غير معلوم، تحاشى السيد الخباز ذكر المستوى الأعلى في الهرم الذي عبّر عنه ماوسلو بـ”تحقيق الذات”، و استبدله بـ”الحاجة إلى بروز الطاقة”، و بحسب المراجع الانجليزية والعربية لم أجد ترجمة متطابقة لما ذكره السيد الخباز. وعلى العموم، قد يعود ذلك إلى وعيه بمدى اشكالية مصطلح “الذات” في سياقها الليبرالي، وما تسببه من مشكلات عند استعارتها في الخطاب الديني التبليغي.
ولكن، لماذا نعتبر استعارة هرم ماوسلو اشكالياً. نعود لحقبة الثلاثينيات حتى الستينيات من القرن الماضي والتي نشط فيها عالم النفس ابراهام ماوسلو، الذي سعى فيها لربط رؤاه السياسية الليبرالية كأمريكي في زمن “الصفقة الجديدة” ومن ثم في زمن المواجهة الباردة مع الاتحاد السوفيتي، مع مخرجات أبحاثه النفسية. حيث اعتبر أن الذات التي ينبغي السعي إلى تحقيقها في هرمه، لا تتشكل إلا في مجتمع ليبرالي ديمقراطي تكون المنافسة فيها على أشدّها. بل أنه لم يتورّع في التنظير لـ”جدارة النخبة” واعتبار غيرهم بحاجة للرعاية من أجل صالح النخبة.
ووضع ماوسلو هرماً موازياً لهرم الاحتياجات للمجتمعات التي لا يمكن للفرد فيها تحقيق ذاته واضعاً المجتمعات الشمولية والأوتوقراطية في قاعه، ومجتمع الصفقة الجديدة الأمريكي في قمته. ويتشدد ماوسلو معتبراً أن الفرد الذي لا يسعى لتحقيق ذاته، يعاني من مشكلة نفسية وفقاً لمعاييره.
ومن الواضح والجلي أن هذه المعايير ليست معنية سوى بالفرد الذي نشأ في مجتمع المبادرة الفردية في سياق اقتصاد السوق المفتوح. وجليٌّ لنا أن الاحتياجات التي وضعها ماوسلو في هرمه، لا تكترث إلا بالحاجيات الفردية، باعتبار الفرد ذرة، والمجتمع -كما في بعض التقاليد الليبرالية- مجرد تجمع ذرات تسعى لمصالحها الخاصة.
ماوسلو بوضعه المعايير الصارمة للاحتياجات واعتبار “تحقيق الذات” هو قمة هرم الاحتياجات، وباعتباره كما يذكر كثير من الباحثين الأمريكيين، من أقوى المؤثرين في علم النفس الذي اخترق الثقافة الشعبية وجعل أفكاره مؤثرة في الناس، قام ماوسلو بالمساهمة في خلق أنانية الفرد الساعي إلى تحقيق أحلامه وطموحاته وذاته في معزل عن الأبعاد الأخرى.
بعبارة أدق، “فرد ماوسلو” المحقق لذاته ليس بعيداً عن “الإنسان ذي البعد الواحد” الذي لا يكترث للصالح العام إلا في سياق مصلحته.
لست هنا بصدد مناقشة الفردانية الليبرالية ولا نقضها، ولكن أضع استشهاد السيد الخباز بماوسلو في سياقه الأكبر، في محاولة لفهم كيف يمكن أن يسهم مثل هذا التوظيف في الترويج لمقبولية أفكار المجتمعات الغربية عن الفرد والمعنى والهدف من الحياة.
وحتى أكون منصفاً مع طرح الخباز، فأنا لا أعتقد بأنه يريد أن يدفع المجتمع نحو قيم الليبرالية الغربية، ولا يريد تعزيز الفرد على حساب الصالح العام، ولا يتفق مع تعريف “الذات” كما نظر لها ماوسلو، وذلك بدليل ذمّه لحياة الغربي الذي يكدح طوال يومه. وهنا، يغيب عن السيد بأن هذا الكادح طوال يومه هو الساعي إلى تحقيق ذاته بحسب احتياجات ماوسلو، الذي اخترق هرمه دورات ما يسمى بـ”تطوير الذات” وواصل اختراقه وصولاً للمنبر الديني. الاتكاء على ماوسلو وهرمه لا يمكن أن يكون أدائياً دون تحمّل عواقب وضعه كإطار للتفكير في حياتنا ووصفنا لأنفسنا وتصورنا لاحتياجاتنا وما ينبغي القيام به لتحقيق ذواتنا.
هذه ليست دعوة للتقوقع على الذات، ورهنها لسياج تراثي والانسحاب إلى التقاليد، وليست دعوة لنبذ كل ما هو غربي كما قد يتصور البعض. بل هذا استعراض لمثال على كيف أن استعارة بعض المفاهيم والنظريات دون الالتفات لحمولتها يمكن أن تؤدي إلى تقمّص أفكار المركزية الغربية، وتدمير قيم ربما لا تزال تقوم بدورها في مجتمعاتنا وينبغي الالتفات لها وتعزيزها، وهي قيم يعتبر ماوسلو وجودها دلالة على أننا من المجتمعات التي وضعها في قاع هرمه المعني بتصنيف المجتمعات.
وستبقى هذه المعضلة قائمة مشكّلة تحدي أمام خطباء ما يسمى بـ”المنبر الفكري”، اللذين يسعون من خلاله لمواجهة تمثلات خطابات الحداثة، والإشكالات الضاغطة التي فاضت بها مجتمعات الاستيراد وتقمصتها، في ظل غياب خطاب ديني قادر على فهم تلك الخطابات ومناقشتها.
الخطاب في مجتمعنا المحلي، وفي الوسط الشيعي عامةً، يفتقر لكتابات نظرية معاصرة كما كان الحال في أزمنة السيد محمد باقر الصدر ومواجهة الخطابات الصاعدة آنذاك. ويفتقر لكتابات مثل كتابات شريعتي ومطهري في زمن التحشيد الإسلامي والتنظير لأسلمة المجتمع، وبدرجة أقل كتابات المدرسيين. بغض النظر عن مضمون تلك الخطابات، فقد كانت تشكل محتوى لأتباعهم لتناول قضايا الساحة وإنتاج ثقافة يجري تسويقها لجمهور يُراد إنتاجه على مقاسها في مواجهة خطابات مضادة.
حالياً، الموجة عاتية ولكنها ناعمة وهي تصل مجتمعاتنا من خلال التمثلات المختلطة بنمط العيش الحديث والإعلام والسينما، في مواجهة خطابات لا تعدو كونها اجتهادات فردية لبعض العلماء وطلاب العلم الذين يستعينون ببعض المطلعين للملمة بعض النظريات كيفما اتفق ودون اتساق، لتُساق كوجهة نظر على المنابر. في حين، وكما أوضحت في مثال ماوسلو، لا يعدو هذا الخطاب سوى “تطبيع” نظريات غربية تعيد إنتاج مجتمعاتنا على مقاس ذلك الغرب، متقمصةً احتياجاته ومعاييره.. ولكن بغطاء خطاب ديني هذه المرة..
اعتقد ان السيد كان موفقا جداً في مواضيعه هذه السنة وعندما يذكر النتاج البشري من حولنا لما يمتلكه الانسان من خبرات يستفاد منها بطريقين، طريق الحكمة التي هي ضالة المؤمن وعن طريق نقد ما فيها من شوائب او اخطاء ليتم الرد عليها او تصحيح الخلل فيها.
ان الانسان مجموعة من الخبرات والتراكمات المعرفية، فالمسلمون في وقت ثرائهم المعرفي استفادوا من مخرجات العلوم الاغريقية وبنوا عليها ثم الغرب عند خروجه من عصور الظلام استفاد وبنى على مخرجات العلوم الاسلامية، فلا اجد ضيراً ان الان مع تقدم العلوم في الغرب ان يتم البناء على مخرجاته .
تحياتي لك واتمنى ان تراجع ما كتبته.
استشهادك بهرم ماسلو لإثبات فكرتك يبدو غير موفق
أولا هذا الإدعاء الذي ذكرته قد تم بشكل مقارب جدا من قبل آخرين،ومن إدخال مقارنة من قبل المتهمين بين النظام الشيوعي والرأسمالي ،وقد قام ماسلو بالرد عليهم بما مفاده أنه يتفهم البعد الاجتماعي للمشكلة، لكنه كان يركز في دراسته على الناحية النفسية بغض النظر عن بعدها الاجتماعي لأنه ليس عالم اجتماع كما قال.
النقطة التي أثرتها جيدة لكن نحتاج منك إلى إثبات آخر من خطابات السيد غير هرم ماسلو ليثبت الإدعاء
ارجع للمقال التالي الذي تحدث عن هرم ماسلو
[الأخ الكريم: لا تسمح سياسة صُبرة بنشر الوصلات الخارجية في التعليقات]
تصحيح: هو مجرد (تنكيه). وليس تنميه
لا أتصور أن هذا الكلام في الخاتمة صحيح، لماذا؟ أولا كما ذكرت في مقالك استاذنا العزيز من أن خطاب السيد احتوى على نقد الفردانية و الأناية وهو بذالك يخرج الهرم عن سياقه لو افترضنا لزوم التصاقه بسياقه ولا ضرورة لهذا الفرض، وثانيا لا محاولتك لوضع الهرم في سياقه ستفرز أثرا ولا محاولة السيد تشذيب الهرم من خلال إعادة ترجمة (تحقيق الذات) إلى تفجير الطاقات، لا هذا ولا ذاك سيفرز النتيجة المتوقعة، وإنما من خلال الأدوات الناعمة التي تضخ في الميديا- كما تفضلت- سيتحقق الأثر، كل ما هنالك أن المنبر يحاول مقاومة الأثر الذي يتوخاه الفكر الغربي من خلال إعادة هضم منتجاته في معدته الإسلامية بعد تعريضه لعصارات تؤدي إلى إنتاج مشتقات منكهة بطابع إسلامي، ولا أعني أن كل الخطاب المنبري هو مجرد تنميه فهو يحتوي على الكثير من المحتوى الروحي و العقدي الذي يفترض أن يكون قادرا على الموازنة مع مادية الفكر الغربي.
وفي كل الأحوال هرم ماسلو كما أرى هو محيد إلى حد بعيد كأداة وجدناها في علم الإدارة و في علم الاجتماع وبالتالي لا مانع من الاستفادة من أداة هي جزء من نظرية كاملة ذات أبعاد مغايرة أو حتى معادية. أنت تطالب بوعي النظريات في سياقها و أظن أن بعض الخطباء يعونها بالفعل و يعون أثرها السلبي على منظومتنا الفكرية و لكنهم لا يرون أن من وظيفتهم عرضها ضمن سياقها بل تفكيكها ثم الاستفادة مما يمكن قبوله والاستفادة منه منها. و أحيانا يريد المنبري أن يقول لجمهوره الذي تعرض لبعض هذه النظريات أنه قرأ هذه النظريات واختار له منها ما يراه مناسبا على طريقة الملخصات النافعة و الكافية لقطاع عريض من المجتمع لا يريد أكثر أو أعمق من هذا كما أنه يريد من يقول له: إننا منفتحون ونقرأ ما ينتجه الغرب ونأخذ منه ونرد في معادلة تحقق الانفتاح والتحديث من جهة وتحافظ على الهوية من جهة أخرى. في الختام قد يكون ما تطالب به من وجود مشروع فكري متكامل في مستوى ما طرحه الشهيد الصدر أمرا منطقيا وطموحا مشروعا. وشكرا لإثرائك.