[مقال] أثير السادة: قصاصات مبعثرة من الخمسينيات
أثير السادة* |
كمثل حارس لذاكرة المكان يقف هذا المحل الضاعن في التاريخ شاهدا على بداية الحياة في الخبر، يجمع بين جنباته أدوات الناس واحتياجاتهم المنزلية منذ قرر الأب أن يمارس التجارة في أوائل الخمسينيات من القرن الفائت، الإبن الذي جاوز الستين عاما يفتح باب ذاكرته وهو يسرد لك سيرة التحولات التي عاصرها في الخبر منذ خبرها طفلا، تسأله عن غياب بعض المعروضات فيحدثك عن متغيرات السوق بين الأمس واليوم.
مشغولا بترتيب قصاصات الذاكرة يخبرك بأن هذا المحل ليس سوى بيتهم القديم، والذي كانت تجاوره الكثير من بيوتات الأسر التي امتهنت التجارة في الخبر، البحر على بعد خطوات قليلة من هنا، وهذه المحلات التي تقابلنا كانت منزل عائلة التميمي والتي عمدت إلى شراء الأرض التي عليها أسواق التميمي اليوم بعد قيام المقاول الكعكي بردم البحر وتسوية الأراضي القريبة..من سوق الملك سعود كانت بدايتنا، يعقب شارحا، وهي بدايات الكثيرين من التجار الذين جاءوا من القصيم والزبير والحجاز والأحساء، وحتى “لهولة” الذين نشطوا في التجارة آنذاك…كان خيار كل عائلة في الأغلب أن تنزل في منطقة قريبة من تجمع جماعتها وأبناء منطقتها.
مثلما ساعدت شركة النفط آنذاك في صعود الكثير من وجوه التجارة يومها ساهم موظفو الشركة الأجانب في انتعاش السوق وبعث الحياة في سوق شارع الملك سعود، وبعده شارع الملك خالد، يقول مستطردا، كانوا يجولون في السوق بملابسهم القصيرة وملامحهم الغربية التي لم نكن نعرفها إلا في الأفلام، لك أن تعود إلى إرشيف مجلة عالم أرامكو وستجد صورا للأجانب في محلنا ضمن تغطية نشرت في واحدة من أعداد عام ١٩٦١، كان يوم الخميس لا ينسى في هذه السوق، حين يفيض بالناس الذين يقصدونه في عطلتهم، يتحضر أصحاب المحال لهذا اليوم مبكرا، ويقضونه كاملا بين أصوات العابرين ووجوههم التي تملأ المكان، كانت حركة تجارية لا يمكن نسيانها.
لم تكن الخبر آنذاك إلا هذه المساحة الممتدة بين شارع رقم ٧ وشارع رقم ١٦، وكانت البيوت متراصة ومفتوحة، رغم أن الخارطة الاجتماعية وسعت مختلف الجماعات التي جلبتها التجارة إلى هنا، أذكر وجوه النسوة الحجازيات وهن يدخن الأرجيلة في صباي، وتلك القادمات من البحرين من اللواتي يدخن “القدو”، بل وجدت بعض النساء يدخن السجائر، لا أذكر بأن هذه السلوكيات كانت محل اعتراض آنذاك، كنا ندخل البيوت في المناسبات بلا حرج ولا ننشغل بالفوارق التي تتركها تعدد الوجهات التي قدمنا منها.
مازلت أذكر صور “الحظرات” والدواسر على طرف الساحل من هنا ،وسوق السمك والخضرة في الجهة القريبة من هناك،، جمع سوق السمك أهل القطيف والدواسر في مكان واحد، لكل منهم زبائنه، فيما كان أهل الأحساء يجلبون الخضرة من مزارعهم يوميا، ولغياب وسائل حفظ الأطمعة كنا نبتاع احتياجاتنا بنحو يومي، وإذا صادف الوقت موعد التحاريم عندكم نحتاط بشراء ما يكفينا يومين أو ثلاثة من السمك والخضار نظرا لتغيب باعة القطيف والأحساء عن السوق، تعودنا على ذلك ولم يكن يثير فينا أي لون من الحساسية الطائفية، صدقني لا أذكر بأننا عرفنا التفرقة في سلوكنا، حتى والدي حين شاء أن يقسم هذا المبنى إلى قسمين ترك القسم الثاني لأبناء السنان من القطيف ليتأجرونه.
________
*من صفحته على الفيسبوك.