فيديو] الجَصّاصة.. مسجد الكادحين وشاهد الدم في “وقعة الشربة” تغيّرت أسماؤه عبر الزمن.. ولا يعرفها إلا الراسخون في علم المكان والزمان

إعداد: ليلى العوامي

تحرير: ديسك صُبرة

الاسم المكتوب على لوحته حالياً هو “مسجد الإمام الحسين”، ولكن من سكان قلعة القطيف من يعرفه بـ “مسجد الوارش”. إلا أن الاسم الحقيقي الأصل المسجّل في الوثائق؛ هو “مسجد الجصّاصة”.. ويا له من اسم، لا يعرفه إلا “الراسخون” في علم المكان الذي يقع فيه والزمان  الذي عبره والأحداث التي جاورته..!

الجصّاصة وهم يعملون على إنتاج مادة البناء الأهم طيلة قرون

في مساحة واسعة خارج قلعة القطيف التاريخية؛ كانت تُسجَر النيران طيلة النهار لإحراق الطين، في واحدةٍ من أهمّ المهن المتوارثة في القطيف. إنها مهنة “الجصاصة” التي كان رجالها يتولّون تحضير “الجص”؛ مادة البناء الأساسية التي عرفتها القطيف قرناً بعد قرن، وشُيّدت بها القلاع والقرى والمنازل والمساجد، قبل أن يحلّ الإسمنت محلّها في مرحلة ما بعد النفط.

طينٌ يُجلب من البحر، ويُحضّر بإحراقه، ثم طحنه، وتحويله إلى مادة ناعمة، مثل الإسمنت، ليستخدمها البنّاؤون في تشييد المنازل والمباني، وزخرفة الأقواس والواجهات والجدران في بيوت الأثرياء.

العامل في هذه المهنة يُوصَف بـ “جصّاص”، ويُجمعون على “جَصّاصة”، وقد حملت بعض الأسر في القطيف هذا الاسم منسوباً إلى المهنة ذاتها.

خارج قلعة القطيف؛ عمل “الجصاصون”، ولأنهم خارج النطاق العمراني، بمقاييس زمنهم، احتاجوا إلى مكان يصلون فيه ويستريحون، فبنوا مسجداً صغيراً لا تصل مساحته إلى 18 متراً مربّعاً، وأحيوا ذكر الله فيه، ثم راح الناس يصلون فيه أيضاً، ويؤدون فروضهم وأورادهم، وسمّوه باسم “مسجد الجصّاصة”، وبقي هذا الاسم قائماً لسنوات طويلة. وعلى الرغم من تغيير اسمه إلى “مسجد الإمام الحسين”؛ ما زال العارفون بالمكان مستمرّين على اسمه الأصل.. مسجد الجصّاصة..!

المسجد في أقصى يمين الصورة التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وعمّال الجص في باقي الصورة

لم تكن القصة قصة اسم ومهنة ودلالة من دلالات المكان المرتبطة بمهنة فحسب؛ بل إن المنطقة التي كان المسجد يقع قبالتها؛ كانت ساحة من ساحات الحرب التي شهدتها القطيف في قرون سابقة. وذلك بسبب وقوعها قبالة سور القلعة التاريخية. وكلما نشبت حرب، واستُهدفت القلعة؛ كانت ساحة الجصاصة المحاذية لحي “الوارش”؛ منطقة تمركز “الغازين”، والثغر الذي يضعه المدافعون في حسبان المواجهة العسكرية.

آخر الحروب؛ وثقها تاريخ القطيف وقعت سنة 1326، في العهد العثماني، في الواقعة المعروفة ـ لدى سكان القطيف ـ بـ “وقعة الشّربة”؛ حيث كانت ساحة “الجصّاصة” مكاناً لمعركة من معارك تلك التي استمرّت أشهراً طويلة، بحسب ما رواه لـ “صُبرة” الحاج منصور السنان، الرجل المعروف بنزاهته وورعه، وناهز عامه التسعين عاماً، حين زارته “صُبرة” في منزله.

ساحة الجص خارج سور القلعة

قبر سيد

السنان يروي قصة المسجد والحرب نقلاً عمن سبقوه، قائلاً “لهذا المسجد أسماء عديدة، أتذكر منها “قبر السيد”، حيث دُفن إلى جانبه سيدٌ قُتل في إحدى معارك “وقعة الشربة” عام 1326هت. ويسمى أيضاً بـ”الوارش” نسبة إلى موقعه في نهاية حي الوارش من قلعة القطيف”.

يضيف السنان “وقعة الشربة، حدثت أثناء عمل الفلاحين في صرام التمر وتعبئته، وقُتل فيها أناس كُثر، ومنهم السيد المدفون إلى جانبه”.. ويقول “أنا لم أحضر الواقعة، لكنني سمعت عنها، وبعض تفاصيلها مدون في كتاب ساحل الذهب الأسود لمحمد سعيد المسلم”.

المسجد من الداخل في وضعه الحالي

موقع المسجد

يقع المسجد في الزاوية الشمالية الشرقية من قلعة القطيف، وتحديداً في نهاية حي الوارش، وهو أحد أحياء القلعة الأثرية التي تتكون من أحياء أخرى أيضاً؛ هي فريق الزريب في الشمال الغربي، وفريق السدرة في الجنوب الشرقي، وفريق الخان في الجنوب الغربي.

صورة قديمة

للمسجد بضع صور قديمة منشورة على شبكة الإنترنت، أقدمها ـ حسب المهتم بالتراث عبدالرسول الغريافي ـ صورة التقطت في ثلاثينيات القرن الماضي، وتظهر في الصورة نخيل الشماسية، وكان قسم منه مغطى، وآخر مكشوفاً لا سقف له، وهذا هو النمط السائد في مساجد القطيف قبل النفط. جزءٌ مسقوف، وآخر مكشوف، لتوفير الظل والتهوية.

أما وضع المسجد اليوم؛ فلا ميزة فيه معمارياً عن أغلب مساجد القطيف الكثيرة، 

مبنى المسجد له مدخل واحد، مقابل الجنوب، ونافذتان؛ جنوبية وأخرى شمالية، ويبلغ طوله 10 أمتار، وعرضه 3 أمتار. وتُلحق به دورة مياه. وهذا وصف لا ميزة فيه، لكن الميزة تكمن في طبيعة إنشائه، وموقعه.

أمتار قليلة

عن الكادحين الذين بنوا المسجد، يقول الحاج منصور أحمد السنان “يرجع اسم “الجصاصة” إلى من عملوا في مهنة الجص، وهؤلاء بنوا المسجد من الجصّ، بمسافة أمتار قليلة بينه وبين سور القلعة، وبالقرب من المسجد، يقع منزل الجصاص في الوارش أيضاً، وهو من أفضل منازل الحي”.

طين البحر

وعن ساحة الجصاصين يقول السنان “هذه الساحة الآن فيها منزل الغمغام ومبنى البريد السعودي السابق، وفي تلك الساحة، كان الجصاصون يصنعون الجص الذي يستخرجون طينه من البحر، ويحملونه على ظهور الحمير، على هيئة كتل من الطين، وينشرونه في المنطقة الواقعة شرقي المسجد حالياً”.

يضيف “صناعة الجص كانت شائعة أيضاً في الكويكب والبحاري والقديح والعوامية، ويستخدم في بناء المنازل وغيرها، وهم من قاموا ببناء هذا المسجد، ليصلوا فيه، ويرتاحوا من عناء العمل، وحر الشمس”.

ويضيف السنان “مساحة المسجد في البداية، كانت صغيرة، لا تتعدى 6 أمتار في 3 أمتار، وكنت أصلي فيه كثيراً، وأتذكر أنني صيلت فيه صلاة العيد، وكان يصلي معنا زكي بن صالح الجصاص وآخرون لا أتذكرهم”.

استمع إلى شهادة الحاج منصور السنان في فيديو عبر الوصلة

أداء الفرائض

أمَّا المهتم بالتراث عبدالرسول الغريافي، فيذكر أن مسجد الجصاصة، الواقع خارج أسوار القلعة، بمحاذاة حي الوارش من زاويته الشمالية الشرقية، من المساجد الصغيرة، التي تُبنى لتخدم العمال والحرفيين، ومثل هذه المساجد منتشر كثيراً القطيف بأكملها”.

 

يضيف “في وقت سابق، اعتاد العمال والحرفيون، مثل الفلاحين والبحارة والجصاصة أن يبنوا مساجد صغيرة جداً في الطرق المؤدية إلى أعمالهم، مثل طرق الزراعة والبحر، وهذا يرجع إلى أنهم في العادة، كانوا يخرجون من بيوتهم قبل أذان الفجر، ويرجع بعضهم بعد أذان المغرب، فيلجؤون إلى تلك المساجد الواقعة على قارعة الطريق، ليتسنى لهم أداء الفرائض أثناء سيرهم، دون فوات وقت الصلاة، ودون ضياع الوقت في البحث عن مساجد هنا أو هناك”.

ويقول “هذه المساجد غالباً ما تكون صغيرة جداً في مساحتها، وبسيطة في شكلها، وطريقة بنائها، ولا تكتظ بالمصلين، لأنها تخدم الأفراد بشكل متقطع”.

صور للمسجد في مراحل سابقة، من أرشيف الفوتوغرافي عثمان أبو الليرات وابنه علي

من فنون زخارف الجص التي أبدعها البنّاؤون في القطيف، الصور للفوتوغرافي إسماعيل هجلس

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×