[3 من 3] مدام بوفاري، وآنا كارنينا.. في امتداح الفضيلة
محمد الماجد
وبشيء من التبسيط لما ورد في ذيل مقال الأمس أقول: إنَّ كل ما صادف مدام بوفاري من تحولات ورموز وعلامات، قد ساهمت وبشكل صارم في تهشيم صورتها كزوجة، وأم، وفتاة حيية، أي أن (المظهر) عبارة عن ومضة لا تضيء سوى حدث واحد فقط، حادثة (الزرنيخ) أو (القطار) مثالاً، بينما (التعبير) عبارة عن وهج يمتد من أول سطر وحتى آخر سطر من الرواية، وفي الوقت الذي انشغل فيه أنصار الشكل، والثقافة الهشة، برصد (المظهر)، ذهب آخرون، مثل كلاب مدربة على الشّم، لقصّ أثر كل رائحة كانت تنبعث من روح مدام بوفاري عقب كل خرق أخلاقي كانت تقدم عليه، وهكذا كانوا يختبئون طيلة الوقت تحت لسان فلوبير، لا لشيء سوى لمراقبة جمله وكلماته، ولمشاهدة تلك المسكينة إيما وهي تهبط من أعلى سفح في الرواية إلى القاع عبر سلسلة من الأنفاق والمنحدرات النتنة.
هل هذا سيدفعنا إلى سؤال عن علاقة الدين بالفن؟
غالباً هذا ما سيدفع واحداً مثل (كلايف بل) للرقص فرحاً كي يتحدث عن هذه العلاقة ودون ملل في كتابه عن فلسفة الفن، ولكن ذلك سيكون في سياق يتعلق بالطريقة التي سيسلكها كل منهما، أي الدين والفن، وهو في طريقه للتعبير عن غاياته وآماله العريضة، أي بالانفعال الروحي الذي يشكل الطاقة العظيمة التي ستساعدهما على الوصول، ولعل هذا يكفي للقول بأن ذلك الانفعال هو ما يجمع الإثنين، أما ما قام به فلوبير، وتولستوي، فهو أبعد حتى من تنظيرات كلايف بِل، حيث أشارا إشارة مباشرة وموحية بإمكانية اتحادهما – أي الفن والدين – في الغاية، فكلا المصيرين الذين آلت لهما حياة مدام بوفاري، وآنا كارنينا، لن يحلم أي رجل دين بأفضل منهما لتبيان فظاعة الخيانة الزوجية، هذا إذا لم يأخذه الحماس والجرأة معاً، فيضع روايتيهما ضمن قائمة الكتب المنهجية لتلامذته، كل ذلك وأنا أحاول هنا أن أختصر طريقا طويلاً لإعادة قراءة العمَلَين دونما حاجة مني للغوص في متاهات التنظير البنيوي، أو الخوض في حديث باطن اللغة وظاهرها، أو بالمعلن منها وبالمسكوت عنه، لأن ذلك سيبدو كمن يرمي حجراً صغيراً ليحرك به مياه محيط هائل.
ولكن ربما شجعني هذا الجهد دون قصد للاقتراب أكثر من قول ما أريد، إذ لا بد لي من الحديث الآن أو آجلاً عن علاقة مّا بين القراءة، وفعل القتل أو الانتحار، وبالتالي، عن علاقة القراءة بالحياة أيضاً، لذلك، وبعد موت مدام بوفاري بقرن ونصف، كان عليَّ أن أتذكر زوجة بائسة أخرى وهي (إيلا) بطلة رواية (قواعد العشق الأربعون)، الرواية الأشهر لـــ أليف شافاك، وقد كان تصوري حتى بداية قراءتي لهذه الرواية المثنوية أن لا شيء يجمع بطلتها (إيلا) بـــــ (إيما) فلوبير سوى الجذر اللساني، وطريقة نطق اسميهما، لأتبيّن سريعاً أن هذا لم يكن المشترك الوحيد، فكلتاهما حسناوان، مقبلتان على الحياة، ومتزوجتان من طبيبين: يمتهن أحدهما البرود العاطفي، فيما تخصص الآخر في الخيانة الزوجية، أي أنهما تمتحان من ذات البئر الغائر، والأهم من ذلك: شغوفتان بالمطالعة، ولعل هذا كان هو المقتل، أي فيما تتداوله كل منهما من كتب حتى اختلف مصيرهما كل ذلك الاختلاف.
وهنا لن نحتاج لكشاف لمعرفة كيف أوصلت إيما نفسها لذلك المصير المرعب متذرعة بزواجها الفاشل، بينما نجحت إيلا في سد تلك الفجوات الروحية ومواصلة الحياة. ففيما كانت الروايات المغرقة في رومنسيتها وتلبية نزوات الطبقة البرجوازية هي النطع الذي طوّق رقبة مدام بوفاري حتى خنقها، كانت أقوال شمس التبريزي، وجلال الدين الرومي – على الطرف الآخر – هي طوق النجاة الذي أنقذ حياة (إيلا)، وبهذا لم تفعل أليف شافاك في مطلع الألفية الثالثة غير تأكيدها المضمر على أن (إيما)، أو مدام بوفاري، وهذا يصدق أيضاً على المسكينة آنا كارنينا، قد أخذت كلّ واحدة منهما قطيعَ فطرتها من العواطف النقيّة إلى المرعى الخاطئ، وسارت بالقطيع عكس مجرى النبع السماوي، قالت ذلك متعكزة على موهبة إيلا الهائلة في الإنقاذ، وعلى لسان جلال الدين الرومي الذي لم يكف لحظة عن تذكير (إيلا) بأن ثمت محبةً وأملاً قادران دائماً على كنس العتمة من طريقها.
ولا أدري …
هل يمكنني القول، وكخاتمة، بأن روايتي (مدام بوفاري)، و(آنا كارنينا)، لم تكونا أكثر من موعظتَين عاليتَين في الأخلاق، إنهما كذلك بالفعل، وربما شكّلتا معاً، واحداً من أطول المتون السَردية في امتداح الفضيلة.
اقرأ الحلقة السابقة.. وسابقتها