[مُبصرون 6] ناصر الصادق.. كفيف عمل في صيانة الأجهزة ونظم “الشعر” نجى من عصا المعلم عبدالله بن حسين.. وبدأ حياته من معهد النور
صفوى: أمل سعيد
“لم يكن أحد من (الوليدات) باستطاعته الإفلات من عصا المرحوم المعلم عبدالله بن حسين، ومع شدته تلك إلا أن عصاه لم تمس ناصر الصادق”، هذه شهادة محمد عباس آل دهيم، أحد أقران ناصر سلمان الصادق وزميله في دار عبدالله بن حسين لتحفيظ القرآن (المعلم).
يضيف آل دهيم “كنا نحفظ السورة القصيرة في يوم، ويحفظ سورا، وعندما وصل للسور الطويلة لم يكن حفظها يستغرق منه أكثر من نهار، كان سريع الحفظ، حاضر الذهن، فكم أثنى عليه معلمنا رحمة الله عليه، وكم ضربنا وتركه، فبالإضافة إلى حسن حفظه للقرآن كان لا يشاغب ولا يثير الفوضى”.
ولادته
ولد ناصر سلمان أحمد الصادق في مدينة صفوى، في 10/8/1370هـ الموافق 16/5/1951م، ولد سليما معافى، لكنه أصيب بالرمد، ولم يتلق أي علاج طبي وذلك نتيجة تأخر دخول الرعاية الصحية إلى المحافظة.
زادت حالة عينيه سوءاً، وفقد في إثر ذلك بصره، حدث ذلك وهو بعد لم يكمل شهره السادس، وكبر ناصر مودعا الضوء إلى عالم معتم، حرمه من الالتحاق بالمدارس التي استقبلت أقرانه، ولم يتلق أي تعليم سوى التعليم الأساسي على يد المعلم عبدالله بن حسين، حيث ضمه أبوه إليه ليتعهده بالعلم والانتفاع بكتاب الله، وكحال الناس سابقاً فقد كان المعلم هو الباب الأوحد الذي يضيء من خلاله سراجاً لمن شملتهم عتمة البصر.
يقول الصادق “كان المعلم تجربة جديدة ومثيرة لي في نفس الوقت، وهناك بدأت أعرف نفسي ولاحظت حينها أني كنت أحفظ بسرعة كبيرة، مقارنة بالأطفال الذين يتعلمون القرآن معي، فحتى السور الطويلة لا يأخذ مني حفظها أكثر من يوم إلى يومين، وربما ذلك يرجع إلى أن الذهن كان مازال صافياً، بعكس هذه الأيام التي تزدحم فيها حولك المشتتات ومعكرات التركيز، أخبار وسياسة ومعارك وغيرها”، ويستدرك الصادق “ومع ذلك لم أحفظ سوى نصف القرآن الكريم”.
وعن سرعة حفظه يذكر الصادق قصة حصلت معه وهو مازال يافعاً في مقتبل العمر ” كنت في إحدى المرات أمشي مع الشيخ إبراهيم الغرّاس رحمه الله، وكان يقرأ وقتها المناسبات الدينية في صفوى، فقرأ لي خطبة من خطب الإمام علي الواردة في نهج البلاغة، وما كاد ينهيها حتى قلت له: لقد حفظتها”.
الدراسة متأخراً
يقول الصادق “مضت سنوات الطفولة ودخلت سني المراهقة وأنا أرقب بحواسي الأولاد في مغادرتهم بيوتهم صباحاً وعودتهم منها ظهراً، وكان التعليم أمنية غالية، تراودني وتلح، إلى أن تم افتتاح معهد النور بالقطيف، وهو المعهد المختص بتعليم فاقدي البصر، وذلك عام 1967م / 1387هـ”.
التحق الصادق بمعهد النور فور افتتاحه، فكان من الدفعة الأولى التي درست فيه، ويصف تلك الفترة من عمره “كانت السنوات التي قضيتها في المعهد من أجمل سنوات حياتي، وأقل ما يقال فيها أنها حياة رائعة بكل معنى الكلمة، ولا أنسى رفقة المعهد، فقد كان كل أفراد الدفعة رائعين”، ويكمل “كان عمري عند دخولي المعهد 17 سنة، وبمستوى الأشخاص العاديين أكون قد أنهيت المرحلة الثانوية، لكن الأمر كان خارجاً عن الإرادة”.
حاول الصادق تقليص المدة الزمنية في الدراسة، وذلك بتكثيف المواد الدراسية لكن إدارة المعهد لم توافق على ذلك، فقضى فيه 12 سنة دراسية إلى أن تخرج منه عام 1979م.
يقول الصادق “كان المعهد يحوي قسمين للتعليم، القسم المهني وفيه يتم تعليم الطالب الحرف اليدوية كصناعة الكراسي والخيزران والحبال وصناعة السجاد والسلال وغيرها، وفيه يقضي الطالب 6 سنوات حتى يتخرج، أما القسم الآخر فهو للدراسة النظرية، وفيه تستمر الدراسة لمدة 12 سنة”.
الوظيفة والدراسة الجامعية
تخرج الصادق من المعهد وكان يرغب في إكمال دراسته ودخول الجامعة، إلا أن تأخره في دخول المعهد وضعه أمام طريقين لا ثالث لهما، فإما الدراسة الجامعية، التي ستكلفه سنوات أخرى قبل أن يتوظف، أو أن يتوظف مباشرة بشهادة المعهد وبهذا يكون قد قطع حبل الأمل في الدراسة الجامعية “وصل عمري حين تخرجت من المعهد 29 عاماً، لذا كانت المفاضلة بين الدراسة والوظيفة مرتبكة بسبب العقود الثلاثة التي أحملها، فاخترت الوظيفة”، ويكمل “توظفت أولاً في رعاية الشباب لأكثر من شهر ثم حولوني إلى مدرسة اليرموك الابتدائية وكانت عبارة عن “برتبلات”، اشتغلت فيها تحت مسمى وظيفي معلم ثم تم تغييره فيما بعد إلى فني أجهزة، بعدها نقلت إلى مدرسة صفوى الابتدائية، ثم إلى اليرموك مرة أخرى وتنقلت مع المدرسة في تنقلاتها من مبنى إلى آخر، حتى وصلت إلى سن التقاعد، بعد قضاء 31 سنة في سلك التعليم كفني أجهزة”.
الخيالات والحلم
ربما تكون ذاكرة ناصر سلمان الصادق، الذي فقد بصره وهو ابن 6 أشهر، مازالت تحتفظ بثنائية الضوء والظل وتغاير الألوان، حيث يعبّر كثيراً عن ذلك “أشعر أني قادر على تذكر الأحداث في حياتي إلى عمر 3 سنوات، وكثيراً ما أرى أطيافاً وأحلاماً وأنا صغير جداً”، وبحسب الدراسات العلمية فإن المكفوفين يرون أحلاما لكنها لا تشبه ما يراه المبصرون، فلا رسوم أشخاص ولا أماكن، حيث تعتمد الأحلام على الحواس الأخرى التي يمتلكها مثل اللمس والرائحة أو حتى السمع، وعلى النقيض من ذلك الشخص الذي فقد عينيه بعد أن كان بصيرًا لفترة معينة، حيث يشاهد صورًا في الأحلام مثل الأفراد العاديين استنادًا إلى ما عاشه من وقائع مصورة في حياته، غير أنه بمرور الوقت تقل تلك النوعية من الأحلام البصرية ويشوبها الغموض وتُصبح غير واضحة ومُشوّشة، ثم يبدأ في الاعتماد على حواسه الأخرى عند الحلم.
الصادق شاعراً
يمكن تصنيف الصادق بأنه شاعر كلاسيكي، يوظف موهبته الشعرية في المواضيع التي تشغله على المستوى الاجتماعي والديني، يقول الصادق ” بدأت كتابة الشعر تقريباً في عام 1967م، وبقيت أكتبه سنوات ثم توقفت، ثم عدت إليه في سنة 1974م حيث بدأت أكتب نتف شعرية وأشارك بها في المحافل الدينية، ومازلت إذا طلب مني أن أكتب شعراً في مناسبة ما، لا أعطي وعداً، إنما أقول سأحاول، لأني أخشى أن لا أوفق، وأتذكر أننا كنا نجتمع في أيام الشباب في بيت الأديب وجدي المحروس رحمه الله، كل خميس”.
وعن سبب تأخر صدور ديوان له يقول “عندي الكثير من الكتابات الشعرية والخواطر، وكتابات عن الأحداث التاريخية، سواء في منطقتنا، أو البلاد المجاورة، إلا أني لا أراني أهلاً لطباعة ديوان أو كتاب، ورغم ذلك فالقصائد التي كتبتها شبه مجموعة ومرتبة”.
ويصرح الصادق “أنا لا أحفظ شعري، ولا أحاول ذلك، بل أنساه بعد كتابته مباشرة، ولكني أحفظ الكثير من شعر الشعراء بمختلف أزمانهم ومدارسهم”.
ويصف الصادق البيئة الأدبية في المحافظة بقوله “القطيف على امتداد تاريخها مليئة بالشعراء، وما زالت تزخر بهم، وكان الشعر في القطيف مما يشار له إذا عُد الشعر في المنطقة فيقال “الشعر العراقي والشعر الخطي”، ولقد أنعم الله على المحافظة بسمات عديدة منها قرب المدن من بعضها، ووفرة المياه فيها، ومجاورتها للبحر والصحراء، إضافة إلى ناسها الطيبين، كل هذه العوامل تغذي الذائقة الشعرية وتلهم الشاعر”.
مركز المكفوفين
افتتح المركز قبل أكثر من 14 سنة وبحسب الصادق فقد افتتحه دكتور ناصر الموسى من أمانة المكفوفين بالرياض، يقول الصادق ” أنا من المنتسبين لمركز المكفوفين التابع لجمعية مضر، ونقوم في المركز بالعديد من الأنشطة، سواء بإلقاء المحاضرات الاجتماعية والطبية الإسعافية أو التوعوية، بالإضافة إلى تعليم الصغار لغة برايل، كما نقوم برحلات ترفيهية وتعليمية”، ويضيف “أشارك في الفعاليات الاجتماعية باسم مركز المكفوفين، للتعريف بفئة المكفوفين، ونشاطاتهم”، وعن نشاط المركز قديما وحديثاً يقول “أتذكر كنا نذهب إلى المركز يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع، وعندما جاءت كورونا قل نشاط المركز كثيراً، حاله كحال كل الأنشطة الأخرى التي تعطلت تقريبا في تلك الفترة، والحمد لله عاد بعد زوال الوباء إلى سابق عهده، وإن كنا نأمل في مزيد من الدفع باتجاه تفعيل دوره في المجتمع”.
المكتبة الناطقة
يمتلك الصادق في بيته مكتبة ناطقة تحوي الكثير من (السيديهات، وفلاشات) تحوي كتباً مقروءة، وعادة يقضي وقتاً في الاستماع لكتاب ما، بالإضافة لبعض الكتب المكتوبة بلغة برايل.
مع المبصرين
يتذكر الصادق حياته كيف عاشها صغيراً، وكيف تعايش مع فقد البصر ” كانت النفوس طيبة والتواصل والاحترام مازال قائماً مع الأخوة والأصحاب في أيام الطفولة والشباب، ولم أشعر بفرق كبير في حياتي عن الحالة الطبيعية، فمنذ الصغر وأنا ألعب مع المبصرين في مختلف الألعاب، لعبت الكرة، والقب قلين، والتيلة، وكنت أخرج للتنزه في النخيل والبحر، لقد عشت حياة طبيعية ولم يحرمني فقد البصر الاستمتاع بالحياة، في البيت والشارع، برفقة الأهل أو برفقة الأصدقاء كنت أراني محاطاً دائما بالطيبين ومن يصفو بهم العيش”، ويكمل “إذا فقد الإنسان حاسة من حواسه فإنه يحاول تعويضها بالحواس الأخرى، فتتقد بعض حواسه لموازنة الخلل الناجم من فقد إحداها، كي يتمكن من العيش بشكل أقرب إلى الطبيعي” ويتوقف الصادق عن المتابعة ليستدرك كلامه “لكن ليس كل من فقد البصر نبغ في شيء، وهذا ينطبق على كل حاسة أخرى، بمعنى أوضح ليس كل المكفوفين تتوقد حواسهم الأخرى، وقد رأينا في الحياة وفي سنوات الدراسة مكفوفيين بالكاد يستطيعون تدبير أمورهم، وأظن أن هذه المقولة انتشرت لتحفيز فاقدي النعم على الإنجاز والتحدي والبحث عن المخبوء داخلهم من إمكانات”.
وفي مقارنة بسيطة بين حياة المكفوف قديما وحديثاً يقول “كانت حياة المكفوفين اجتماعياً وحركتهم أسهل فيما مضى، فلم نكن نعاني ازدحام السيارات وكثرة التفاصيل، وكان فاقد البصر يستطيع بمفرده أن يذهب إلى أي مكان للزيارة أو العمل أو النزهة دون الحاجة إلى من يعينه للوصول، وعن نفسي كنت أذهب إلى النخيل والبحر دون أن أحتاج أحداً من الناس ليدلني الطريق أو ليدرأ عني الخطر، أما الآن فنحن محاصرون بكم من السيارات تدعو للقلق من عبور 20 مترا من الشارع”، ويكمل “وفي الجوانب الأخرى من الحياة كان لوجود الأجهزة المساعدة للمكفوفين دوراً في تسهيل حياتهم، ووصولهم إلى أهدافهم، فالتعليم أصبح أسهل، والوصول إلى المعلومة صار في متناول أيدي الجميع، وبالطبع فالوعي عند الجميع المكفوفيين وغيرهم صار أفضل”.
اعرفني
وعن الصعوبات التي واجهها في حياته أو المواقف المزعجة ينفي الصادق تعرضه لذلك ويؤكد أن حياته على المستوى الشخصي والاجتماعي والعملي كانت سهلة وميسرة ويرجع الفضل لله في ذلك ويقول “نعم أتعرض لبعض المواقف المحرجة قليلاً لكني أتجاوزها لثقتي بنوايا أصحابها، وأعلم أن منبعها الحب والاحترام، فأحيانا يأتيني بعض الأشخاص واضعاً كفه في كفي وضاغطا عليها ولسان حاله: اعرفني، فأقول له: ما يصير، أنا لا أراك، ولم تتكلم لأسمعك فكيف أعرفك من يدك؟!!، لكنني ولله الحمد أحظى بصحبة ومعارف رائعين” واستشهد الصادق بقول الشاعر: ومن لم يجامل في أمور كثيرة.. يضرّس بأنياب ويوطئ بمنسم والبيت الآخر
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
الحداثة المزعجة
وعن التغير في نمط الحياة يقول الصادق “الحمد لله مجتمعنا مترابط ومتكاتف بشكل كبير، لكننا بدأنا نرى أنماطاً غير صحية فعلاقة الجار بجاره مثلاً لم تعد كسابق عهدها، كان الجار فرداً من العائلة واليوم ربما تراه مرة في الشهر” ويضيف “أظنها من سلبيات المدنية فهي كما أعطتنا سلبت منا، وأتمنى أن يأخذ المجتمع من الحداثة أفضل ما فيها، ويعمل على ترشيح ما تجلبه لنا وانتخاب ما يلائمنا وترك الغث منه إلى أهله”.
وما بك داء
وختم الصادق حديثه لـ “صُبرة” بنص فلسفة الحياة كما يسميه للشاعر إيليا أبي ماضي فقرأ بعض أبيات من قصيدته (أيهذا الشاكي وما بك داء)، فقرأ:
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عبئاً ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا
ليس أشقى مّمن يرى العيش مرا
ويظنّ اللّذات فيه فضولا
الصادق في سطور
- ناصر سلمان أحمد الصادق ولد سنة 1970م
- الأم زينب علي محمد آل سيف
- يبلغ من العمر 72 عاماً
- تخرج من مركز النور 1979م
- عمل في وزارة التعليم فني أجهزة
- تقاعد في 2011م، بعد 31 سنة من العمل.
- شاعر وقارئ للقرآن
- أحد أعضاء مركز المكفوفين بالقديح
- متزوج وعنده من الأولاد علي وزينب وفاطمة وزهراء وزكية ومحمد
- ومن الأحفاد حسين ومحمد وزينب
اعتقد هناك خطأ في تاريخ الميلاد فبدلاً من ١٩٧٠ م يكون ١٩٥٠ م