[4-4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش: الوصف

عيد الناصر
المحور الثاني: الوصف.
ما يميز الوصف أنه: ناطق في ذاته موضحاً ومؤشراً لما يرى ويشعر ويحس به من أمور، و هو أيضاً تصوير ولكنه يشتمل على إحساس المصور وانفعالاته مع المشاهد. وهو يوحي بوجود مسافة بين رؤية المشهد ومن ثم محاولة استعادته وتكوينه من جديد، وهنا يعني دخول الخيال والذاكرة والتجربة. وهو أيضاً قد يكون عبارة عن إعادة مشهد عبر الذاكرة وتدوير تفاصيله. هنا بعض الأمثلة لتوضيح المقصود.
مشهد وصفي جميل لشخص يجري والخوف يلاحقه، وأصوات الكائنات تصاحبه وهو يجري، أصوات مختارة بعناية ودقة مفرداتها عالية: “.. كان يلهث وهو ينعطف مع أحد الممرات. ساد الصمت، وليس في مسمعه، وهو يعدو، سوى وجيب قلبه وصوت الليف المنزوع من كرب النخل وصوت القضم والمضغ، وهزيز الهواء في طرف ثوبه بين ساقية الراكضتين”. ص 14 استوقفني كثيراً قوله: “هزيز الهواء في طرف ثوبه ..” هذا مقطع من الصعب التقاطه بهذه الشفافية إلا لشخص عاش التجربة بعمق.
من خلال وصف المشهد لمحتويات المكان نعرف أن جنود الاحتلال دخلوا أحد بيوت الفلاحين، وصف رائع جداً وواقعي بخيال ملفت يوضح الوضع الاقتصادي والاجتماعي للعائلة التي تسكن ذلك البيت، وكذلك عنف العسكر وعدم مراعاتهم لحرمة أهل البيت: “في الزاوية كان هناك سراج يعمل بالكيروسين، ذو ضوء خافت، وقد ضاع ضوؤه في الأنوار الباهرة للمصابيح اليدوية في أيدي الجنود. نهض الرجل الأشيب وثوبه المنزلي يكشف أكثر عن ترقوته الناتئة، وأخذ خطوة صوب الحجرة التي التجأت إليها امرأة عجوز وصبية. دفع الضابط هنري باب الغرفة، وجاء صراخ المرأة العجوز من الداخل ..”. ص 72
أما الوصف التالي فهو يتمم الصورة التي بدأت بها الرواية وبدأنا بها هذه الدراسة، فالمشهد هنا يؤكد على مدى وحشية عملية القتل ودمويتها ..إلخ وهو ما قد يدفعنا للاختلاف في تأويل هذا الوصف، وربما وصفه بالانحياز، وفي أحسن الأحوال بالحياد، على طريقة الإعلاميين والصحفين المحترفين:”.. ربط الشباب جثث الجنود الثلاثة من أقدامهم بالحبال، وثبتوا كل جندي بمؤخرة سيارة، ثم تحركت السيارات الثلاث وسط الصراخ والضجيج، وجثث الجنود العارية ترتطم بالحصى وتتقلب في التراب. كان السكان موزعين بين الخوف والهلع والحيرة وانعدام المعنى”. ص 15
هذا المشهد يحرك بعض الصور التي توقفنا عندها في الجزء الأول من هذه الدراسة، يحرك الهواء و يعطي ألوانا مختلفة ومغرية لسعف النخيل، وكذلك يضيف إغراء للرطب في عذوق النخيل، كل هذا ينعكس على نفسية وعقلية ديفيد الذي كان ينظر إلى هذا المشهد السينمائي: “هبت نسمات منعشة تميل إلى البرودة بشكل مفاجيء. أضاء الطريق الذي يمشي فيه، فاستحالت سعفات النخيل الى بريق زمردي أخضر، والتمعت عذوق الرطب وتمايل العشب حول جداول الماء المنساب صافياً. أضاء مشهد الحقول بكل تفاصيله. اجتاحه الشعور الغامض نفسه الذي يدفعه دائماً نحو أعماق بساتين النخيل. يسمع صوت الصمت المهيب بين سعفات النخيل.” ص 78
وهنا وصف آخر، شفاف جداً، في ملاحظاتي الشخصية دائماً ما أطلق على مثل هذه اللقطة ب “هامش” وأقصد به تلك اللقطة التي تعطي النص حيوية وواقعية متقنة وشفافية ملفتة، وهي لقطات آسرة، بالنسبة لي: “عند العتبات الخشبية لباب غرفته يسترعي انتباهه الوثوبات المرحة الأولى لثلاث خوصات مستطيلة دقيقة منبثقة من التراب. رأى الأنصال الخضراء الغسقية متجاورة ومشرئبة إلى الأعلى وكأنها تحييه. لقد كبرت قليلاً. يمشي إلى الخوصات المتجاورة لينحني على واحدة ويلمس الحزوز الطويلة الرقيقة لجسدها الضئيل…” صفحة 103
الله ..، تأسرني عبارة “شماريخ النخيل” تهز رائحة الشماريخ ذاكرتي هزاً وتستفزها، هنا وصف آخر يفيض جمالاً وروعة للنخلة العربية، يحول هذا المشهد النخلة إلى حالة أشبه ما تكون بالشاهد الأسطوري المحايد بإنسانية مجردة، الذي لا تطاله الأحداث، فهي تلقح وتثمر وتنضج ثمارها ليعيش الناس والدواب على أكلها، حتى الأعداء والمحتلين يقفون تحتها ويلتقون أو “يخرفون” من رطبها وتمرها دون أن تؤذيهم شوكاتها “السلا” الطويلة الحادة: “في العراق كنت أتابع صيرورة النخيل بتمهل، أتهجى حروفها كما يفعل طفل يدخل المدرسة. كانت عيناي مشدودتين إلى شماريخ النخل وتحولات ما كانت تحمله فوق رؤوسنا يوماً فيوماً، ونحن نسير في البساتين والقرى بأحذيتنا أسلحتنا. كانت الثمار تسوي غير عابئة بما يحدث.” ص 122
وهنا وصف لمنظر البحر ودكة الصيادين في سان فرانسيسكو، وصف للحظة عاطفية حين يجتمع الطفل ببراءته والنورس، مشهد ممتلىء بالصفاء والبراءة، ذكرني بتشبيه السياب لظل الطائر على الأرض بالصليب، ومع أن الوصف هنا لم يقترب من تلك الجمالية المهيبة التي استحضرها السياب إلا أنها تحمل تلك الطراوة اللطيفة: “طائر النورس الكبير يتوقف لبرهة في السماء فارداً بياض جناحيه حيال زرقة السماء. يصوت الطائر. ينزلق في الفضاء مقترباً أكثر فأكثر. يرى الطفل ظل الطائر ثابتاً على ألواح الدكة الخشبية على بعد خطوات إلى اليمين. يرفع الطفل عينيه، يحدق في بياض الطائر و ريش صدره الذي يقترب، يشعر بدفء صدر الطائر ورائحة البحر في ريشه. يطالع الظل الرمادي الداكن على الأرض الخشبية ..”. ص 192
هذا المشهد خليط من التصوير والوصف والإخبار على الرغم من أهميته الموضوعية في الحكاية، لأنه يرصد الحالة الاجتماعية للناس في المنطقة الشرقية في مرحلة فاصلة حساسة ومهمة من تاريخ المنطقة العربية والإسلامية (1977م)، فهذا المشهد يحاول التأكيد على حالة التداخل والتواصل الإنساني والإجتماعي والثقافي بين المواطنين في المملكة من كل مختلف المناطق والطوائف والقبائل، وهي حالة وطنية وإنسانية رائعة.
هذان مقطعان مهمان، يتحدث الأول عن عادات الناس في الأكل والشرب والضيافة، والمقطع الآخر يتحدث عن العلاقات بين مختلف الناس في المنطقة: “.. وقد جعل الموظف زوجته وبناته ينهمكن في إعداد مائدة من الأسماك مع الأرز الأبيض والبرياني قدمت مع دهن البقر في طاسات صغيرة جانبية وصحون البصل والفجل، وسلال الليمون القطيفي والرطب الذي كان في عز موسمه…” ص 205 ويتابع قائلا: ” وحين تصفح ديفيد وجوه الحاضرين وجد حضوراً فخماً، فقد كان هناك المغني الضيف وفرقته العازفون الستة، وعمه ليونارد، ورجب سمعان، ومجموعة من معارف وأصدقاء رجب من شباب المنطقة من الدمام والخبر وسيهات والقطيف و المبرز والهفوف بينهم رسام ونحات وعازف عود ومهندس، وأصدقاء من الرياض ودة والمجمعة وعنيزة وحائل ومنطقة العلا التاريخية ..” ص 205
سأكتفي من أمثلتي هنا بهذا المشهد الذي يصف لحظة استهداف عسكرية لهدف ما، وهو يكرر مرة بعد أخرى صورة النخلة وعذوق النخيل برطبها، الجميل بأن صوت الانفجار المرتبط بفرار الطيوب وكأنه يشير إلى أن الطيوب أقرب في حركتها إلى الرصاص المتطاير في الفضاء، وهي لقطة مفتوحة التأويل: “صوت انفجارات يتردد صداها في البعد. تفر طيور من أعشاشها في النخل. يلمح ديفيد حركة الطيور قرب عذوق النخل الزاهية بلونها الأصفر. في القمرة الوسطى روبرت ستاين يتلو الصلوات خلف المقود” ص 260
خلاصة هذا الموضوع، يمكنني القول بأن الصور أو الوصف أو الإخبار في النص السردي تكون مفيدة من الناحية التاريخية لأنها ترصد مساحة الانزياح أو الردة على المستوى الثقافي والاجتماعي والعمراني والفني، وهي بدون شك قادرة على شحن النص بالحيوية وإبعاده على الرتابة السردية، وفسح المجال للقاريء لكي يشارك في بناء النص.
“النهاية”