[1 ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش: التصوير والوصف السردي

عيد الناصر

 

تقديم

سجادة السرد في هذه الرواية حيكت بأدوات متعددة لفرش الحكاية الرئيسية، واشتملت على الحكاية (القصة) والوصف والتصوير والحوار والإخبار والاسترجاع (فلاش باك) والشرح والتحليل والاستشهاد بمقاطع أسطورية وشعرية وتاريخية وموسيقية ..الخ، هذه كلها سبكت بلغة أدبية جميلة بليغة، وبعيدة عن التعقيد.

في هذه الورقة اخترت أن يكون حديثي عن التصوير والوصف السردي في هذه الرواية، لأن استخدام الصورة في السرد تقنية حساسة وخطيرة جداً. لو نظرنا إلى الصورة في فن التشكيل فسوف نجد أن عناصرها لا ترتبط بشكل مباشر براسمها، ولهذا فهي تمتلك مساحة من الحرية في التلقي والتأويل غير متوفرة في الصورة السردية.  مع التأكيد بأن المعنى العميق لكل صورة يتولد من السياق الذي تأتي فيه، ولكن طبيعة هذه القراءة تستدعي تقديمها بهذه الطريقة مع التنويه إلى أنني أحاول جاهدا ألا أكون بعيداً عن السياق الذي وردت فيه في الرواية محل القراءة هنا.

في النقد العربي طالما كان التركيز على الصورة الشعرية والأدبية والبلاغية، ولكن الصورة السردية لم تأخذ نصيبها من الاهتمام إلا في السنوات القليلة الماضية وبشكل محدود. كلا التقنيتين (التصوير والوصف) ضروريتان للنص السردي، وقد تكون عناصر تميز وتفوق هذا النص السردي أو ذاك إذا ما تم الاهتمام والعناية بهما. 

قد يسأل البعض: هل هناك فرق بين الصورة والوصف؟ أقول: هما متشابهان إلى حد كبير، والاختلاف بينهما دقيق وبسيط جداً، وقد يحدث الالتباس في كثير من الحالات للتمييز بينهما. بالنسبة لي الصورة تبدو علاماتها ثابتة، مواقع عناصرها مستقرة، الألوان باقية كما هي..إلخ، ويمكن تأويل الدلالات دون نسبتها لأي شخصية، وفي المقابل فإن الوصف في السرد عادة ما نشعر فيه بصوت الشخصية، أو رأي الراوي، أو الكاتب وهو يعلق على ما يرى، ويطلق أوصافه وتشبيهاته وتعليقاته ومشاعره تجاه ما يرى في تلك الصورة.

أقر بكل صراحة بأن مشكلة هذا النص، بالنسبة لي، هي الموضوع والشخصية الرئيسية فيها، التي يبدو لي بأنها حدت من حركة ومناورة الراوي. الموضوع الرئيسي حساس جداً، لأنه مرتبط بحدث سياسي، تاريخي مهم وخطير ومفصلي في حياة الأمة، مرتبط باحتلال قوة عظمى، بمساعدة 30 دولة، لقطر عربي، وتجويع وقتل الملايين من شعبه من الشيوخ والنساء والأطفال، .. وتدميره تدميراً كاملاً، وإعادته إلى ما قبل 200 سنة، كما وعد جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي في حينها، عندما التقى طارق عزيز، وزير خارجية العراق في أحد فنادق باريس. وما تسرب حتى الآن من أقوال رسمية وشخصية أمور يشيب لها شعر الرأس، ويكفينا سجن أبو غريب مثالاً على ذلك.

أما الشخصية الرئيسية في الرواية هو عسكري جاء مع جيش احتلال، ومهما حاولنا إعطاءه من صفات ثقافية واجتماعية وإنسانية، فإنه سيبقى من الصعب إقناع المتلقي بإنسانية مهمته، وخصوصاً بأن هذا هو بالفعل ما حدث مع نهاية الرواية، حين يكتشف القارئ بأن ديفيد لم يقدم ما يستحق للبسطاء والفقراء من الشعب الذي وقع عليه ضيم الاحتلال وظلمه، فالأمور هنا ليست بالنوايا.

 

لهذا فإن أي مثقف إنساني سوف ينحاز إلى الروح الإنسانية، أي الجانب الذي يرفض ويدين كل أشكال الاستعمار والاحتلال والاستعباد للشعوب قديماً وحديثاً، لأن الراوي، بكل صراحة غير معذور، لأن لديه حرية واسعة لاستيعاب كافة الأطياف، فالرواية تشكل أعلى درجات الممارسة الديمقراطية والحرية، ومن ثم فإن الراوي أو الكاتب يمكنه تقديم أي موضوع شاء، بلا تحفظ، فكل شخصية تتحدث بلسانها: القاضي بلسانه، والمظلوم بلسانه، والمجرم بلسانه، والعسكري بلسانه، والمقاوم بلسانه، وكذلك الراوي أو المؤلف/الكاتب له مساحته.

الصورة السردية تبعث في القارئ مشاعر مختلفة تخلقها اختيارات اللغة المستخدمة في بناء النص، مشاعر مثل المساندة والتأكيد أو البشاعة والرفض لشخصية ما أو حدث ما ..الخ، على سبيل المثال، لو استعدنا صورة غيرنيكا لبيكاسو، ماذا سنرى؟ صورة لبشاعة الحرب التي شنتها ألمانيا وإيطاليا واستهدفت الغارة الترويع والترهيب عبر قتل البشر خلال الحرب الأهلية الإسبانية، أي أن سر عظمتها هو تركيزها على البشر من الضحايا وليس المباني أو المنشآت. ولكن في تلك الصورة من الصعب أن ننسبها لشخص، أما في السرد فالوضع مختلف.

في السرد حين تمر علينا صورة في قصة أو رواية، وعادة ما ترد على لسان شخصية ما (الراوي، أو شخصية من الشخصيات ..الخ)، وستحسب على لسان قائلها، بغض النظر عن جمالية الصورة من الناحية الفنية واللغوية، والكاتب حين يرسم صورة بكلماته فهو، في أغلب الظن، يستهدف هذه المشاعر، ولربما كسب أو خسر التعاطف في هذا الموقف أو ذاك دون أن يتورط بشكل مباشر حين يتم تأويلها بشكل أو بآخر قد لا يكون في صالح النص فنياً أو موضوعياً. 

هذه الصيغة تريح الكاتب والمتلقي على السواء، تريح المتلقي بأن تتيح له مساحة من التأمل والتفكير فيما يقرأ، وبالنسبة للكاتب فهي تتيح له حرية الحركة والمناورة والتبرير، وحتى الإتيان بمبررات واستشهادات لغوية من خارج النص إن استدعى الأمر، ولهذا فمن المهم ألا يأخذ القارئ هذه الصور بحسن نية كما تبدو ظاهرة في المشهد، ومن واجب المتلقي أياً كان دوره، قارئا عاديا أو ناقدا أو متذوقا، أن يشك ويتساءل عن الغرض من إثارة هذه العاطفة أو تلك، وإن كانت تتماشى مع مشاعر اللحظة النفسية والتاريخية للحدث الرئيس أم لا؟

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×