الارتزاق بالمعرفة المرتزق قد يكون قاتلاً أو بائعاً أو باحثاً أو أو إعلامياً أو خطيباً.. فرداً أو مؤسسة
محمد العيسى
يُعَرَّف “المُرتزِق” بأنه كل شخص يقوم بأي عمل بمقابل مادي بغض النظر عن نوعية العمل أو الهدف منه، وغالباً يُطلق على من يخدم في القوات المسلحة لبلدٍ أجنبيّ من أجل المال.
والمُرْتَزِقَةٌ هم مَنْ يُحاربون في الجيش طمعًا في المكافأة المادِّيَّة، وغالبًا ما يكونون من الغرباء، وفي تعريف آخر هُم الجنود الأجانب المستأجرون للقتال. ولا يُسمّى الجندي الوطني مرتزقاً لأن له دوافع أخرى غير المال كالدفاع عن أرضه وعرضه وقيمه.
وقد ارتبطت كلمة “مرتزق” بالسمعة السيئة كالوحشية وانعدام الضمير والأخلاق، لأن المرتزق عنده استعداد تام لأن يُزهق الأرواح وأن يرتكب كل الجرائم والموبقات، من أجل المال فقط بغض النظر عن مشروعية ما يفعله أو ارتباطه بالحق.
والسؤال الذي أطرحه هنا هو: هل أن بضاعة الارتزاق الذميمة هي محصورةٌ في القتال العسكري فقط..؟ أم أن هناك بضائع أخرى لا يقل الارتزاق بها سوءاً عن الارتزاق بالقتال؟
من التحديات التي تواجه طالب أي “رزق” مهما كانت بضاعتُه هو أنه سيجد أن هناك تعارضاً في المصالح بين التزامه بالمصداقية في جودة وصلاحية وأصالة بضاعته وبين مقدار أرباحه التي يجنيها؛ فكلّما حرص على جودة وأصالة وصلاحية بضاعته؛ قلّت أرباحُه.
وكلّما زاد في الغش والتدليس؛ زادت أرباحه. وهذه الآية الكريمة تبيّن هذه المعاناة الأخلاقية التي يعيشها كلُّ طالب “رزق” {وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون}. وما أسوأ هذا الرزق الذي لا يزدهر إلا بالكذب، وما أتعس صاحب هذا الرزق الذي قد يدفعه كذبه إلى تحويل المواد الغذائية التي يشتريها منه الناس لكي يعيشوا بأكلها إلى سمومٍ يموتون بعد تناولها.
إذاً فالارتزاق ـ ذميم السمعة ـ ليس محصوراً في سلعة “القتال” من أجل المصالح المادية فقط دون اعتبارٍ للأخلاق، بل في المتاجرة بأي سلعةٍ أو بضاعةٍ كانت بهدف المصالح المادية فقط دون اعتبارٍ للأخلاق أو المشروعية. والآن ماذا لو كانت بضاعة هذا الارتزاق الذميم هي “المعرفة” و “العلم”؟
تصوّر مؤسسةً بحثيةً علميةً تتلاعب في نتائج أبحاثها وفي أوراقها العلمية المنشورة لكي تثبت أن التدخين غير ضار لكي تقبض مبالغ ضخمة من شركات التبغ.
تصوّر طالب علم يتلاعب في نتائج رسالته لكي يحصل على شهادة “الماجستير” أو “الدكتوراة” في أسرع وقت لكي يتوظّف بها ويسترزق منها؟
تصوّر أن المشرف على رسالة هذا الطالب يقوم بالتغاضي عن أخطاء كبيرة في بحث أو في رسالة هذا الطالب لكي يزيد رصيده من عدد الطلاب الذين أشرف على رسالتهم أو لكي يزيد من رصيد الجامعة من الإنجازات.
تصوّر إعلامياً يقوم بقلب الحقائق وتحويل الباطل إلى حق لكي يرضي رئيس تحريره.
تصوّر خطيباً مدفوع الأجر يحدّث من فوق منبره بأشياء لا يقبلها عقله ولا يرتاح لها ضميره لا لشيء إلا لأن هذا هو ما يريده المستمعون ويأنسون به وأن هذا هو ما يرضي من سيدفع له أجرته.
خلاصة القول: طلب الرزق حقٌ مشروع لكل إنسان ولكنّه يتحوّل إلى باطلٍ ذميم إذا مارسه صاحبُه من أجل نيل المصالح المادية فقط، ضارباً بعرض الحائط كل الأخلاق والقيم. وإذا كان قتلُ الأنفس من أجل المصالح المادية البحتة عملاً ذميماً، وإذا كان بيع البضائع المغشوشة ومنتهية الصلاحية من أجل المصالح المادية البحتة عملاً سيئاً، فإن تسويق المعارف المزوّرة والمغشوشة من أجل المصالح المادية لا يقل سوءاً وإجراماً عن ذلك. فليحذر كلّ مشتغلٍ بالمعرفة من أن يكون “مُرتزِقاً” بها.
لفتة جميلة ورائعة من الأستاذ محمد، صار العلم و الفكر و الدين بضاعة يتاجر بها، و أسوء البضاعة تلك التي تنسب للسماء