[تعقيب] الدوائر العروضية.. مدخلاً وعلةً وفُرجة.. ومخرجاً
أيمن عمران
لا يُمكنُ للباحث في علم العروض إغفال جهد وعناء الأولين من العروضيين، وإن بدا بعضه على شكل رسائل متفرقة وآراء مدفونة في طيات كتب مختلفة، سيبقى كل ذلك جهدًا مهما كان شكله، وتبرز قوته حال انتظامه في مادة واحدة، كما هو الحال في محاولة لجمع تراث المعري العروضي، إذ كان بجمعه وانتظامه درة عروضية نادرة لا يمكن تجاوزها، أعني بذلك: إن اشتغالًا حقيقيًّا وصلنا من تلك الطبقة.
ولستُ في هذه العجالة بصدد وضع خطوط حمراء بدفعي أي نقاش؛ بل إن كان حُكْمُنا على جهد عروضي ما على أنه ظني يمكن مناقشته، وإن تخلله تقعيد علمي فلا يُغيَّب بل يُقَعَّد بقاعدة تُجارِيهِ، وإلا عطَّلنا بدورنا التفكير مما سيُخَلِّفُ وراءه اندثارًا كبيرًا في تراثنا ككل، وهذا ما دأب عليه الأولون، فنرى إجماعًا تارة وأخرى خلافًا وفي أدق تفاصيل مسألة ما، والمسائل العروضية التي تمثل الحالتين كثيرة ولست بواقع ذكرها الآن.
الدوائر كمدخل:
يقول د. مصطفى حركات: “واتجهنا اتجاها آخر في دراسة الدائرة، فبعد تعريفها النظري واستنتاج ما يمكن استنتاجه من مقولات، بحثنا عن علاقة الدائرة بالواقع الشعري، ودققنا في القضية التي وضعها البعض كبديهية لهم، وهي أن الدائرة شيء اصطناعي لا علاقة له بالواقع”.
أحدثت دوائر الخليل وعياً هندسياً موسيقياً منتظماً، واجتهدت الطبقة العروضية الأولى في استقرائها واستخراج ما تنجبه من نظم موسيقية، و أوجدوا طرقاً لفكها و أحدثوا شكلها وزادوا دوائرها بأخرى ولَّدت لهم نتائج متباينة، واجتهدوا في تسميتها كذلك، وفريق منهم اقتصر على وضعها كلها في دائرة واحدة، وعلى ما يبدو لم تصمد تلك القوى أمام ذكاء الخليل -رحمه الله-، وما أفرده ببراعته، وإن بدت لوهلة على أنها بديهية وليست بحاجة إلى جهد لفهمها؛ لكنه الفهم القاصر الذي قام بقلبها وفهمها على ذلك، لذا احتاج الأمر إلى إيضاح قبال هذا القصور، حتى لا ينحى إلى الخطأ الجلي!
الدوائر كعلة:
وإذ نمر على البحور وما فيها من مقاطع موسيقية، نرى تشابهًا بين بعضها سواءً في طول المقطع وقصره وابتدائه وانتهائه والعدد المُكَوَّنِ منه من التفاعيل …، ولنا أن نتصور هذا التصور:
-فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
= فعْلن / مفاعيلن / فعولُ / مفاعلن
= فعلن مفا / عيلن فعو / ل مفاعلن
= مستفعلن / مستفعلن / متفاعلن
فهل يصحُّ القول بأن الطويل تحوَّل إلى الكامل بتغيير بعض مقاطعه؟ موسيقياً يصح، والأذن العروضية تعرف هذا النغم، أما تركيباً، فلكلٍّ تركيبته الخاصة، فلو نظرنا ـ مثلاً ـ إلى (مستفعلن)، فهي صحيحة في الرجز؛ لكنها مزاحفة في الكامل على أنها هي ذات التركيب..!
(مستفعلن)=(متْفاعلن).
وبهذا الفهم وردت تساؤلات عند الباحثين، أوجز بعضها:
١- المخلَّع: أ هو من البسيط أم من المنسرح؟
٢- أورد القرطاجني هذا الشكل:
مستفعلاتن مستفعلاتن – مستفعلاتن مستفعلاتن
أهو من الرجز أم هو ذاته المخلع؟
٣- يمكن أن يصبح شكل المقتضب:
فاعلاتُ مفتعلن
= فاعلا / تُ مفتعلن
= فاعلن / مفاعلتن
فهل يعني عند تقطيعنا إياه بهذه الكيفية أننا كسرنا الوزن؟ أم أن التقطيع شيء -وهو ميل لهوى العروضي-، والتركيب المراد شيء آخر؟
وغيرها من التساؤلات التي اصطفت وتراكمت نتيجة لسلسلة من المفاهيم.
الدوائر كفُرجة:
لم تفت هذه الخدعة العروضيين، ولم تمر دون وعي منهم فقد قاموا بتهذيبها وإن انطوت في مواطن أخرى تلازم الكشف المبكر، فقامت الدراسات حول ما أسموه بالتداخل في البحور وربما سبقوها بوضع قوانين تحد منها، ولنا في قبح وحسن الزحاف عبرة، ولنا في تنظيم عملية التغييرات عبرة أخرى، فقد جاز لنا تسكين أو حذف حرف في حشو صدر بينما امتنع نفس الموطن في حشو عجز، وقالوا بوجوب استخدام بعض البحور مقصرة وكراهة استخدامها تامة وقالوا باستخدام بحور تامة غير مجزأة، وقد تركوا نُظُمًا إما لعدم شهرتها أو لركاكتها على حد تعبيرهم، أما عن التفاعيل المتشابهة الحركة المختلفة التركيب فلها حديث آخر رغم انصبابه هنا، وهذه أولى المحاولات الخجولة، وعلى الرغم من جرأتهم على تهذيبه إلا أنه فرض تغلغله. على هذا اعتمد العروضيون على تلك القوانين دون الإشارة إلى أسبابها، ولعلهم أرادوا بها إسكات التداخل وجعله واحداً من أفراد تلك العائلة المتفرعة من الدوائر، ولعلهم أرادوا إضمار علَّتَين في نفوسهم:
الأولى: إن نتيجة اعتمادهم على تلك القوانين لشياعها آنذاك،
الثانية: لذات التداخل للتخلص أو الحد منه.
وقد تتعدى تلك القوانين وتتجلى في مواضع بعيداً عن التداخل، إلا أنني آثرت نبشها هنا علنا نظفر بنتيجة.
الاعتماد كنقيض والدائرة كمخرج:
اعتماد النون في الطويل حذفها، واعتمادها في المتقارب ثبوتها!
يقول أبو الحسن العروضي في عروضه في اعتماد الطويل: “وقد ألزموا نون فعولن الذي قبل الضرب الثالث من هذا الباب الحذف”.
ويمكن الإجمال بقاعدة اعتماد الطويل وعلتهم فيها كما يقول ابن رشيق في عمدته: “لأن السبب قد اعتمد على وتَدَين اثنين، أحدهما قبله، والآخر بعده؛ فقَوِيَ قوة ليست لغيره من الأسباب، فحسن الزحاف فيه”.
بينما نرى خلافاً واضحاً في نون فعولن المتقارب أتبقى على ماهي؟ أم يجب حذفها؟
يرى الخليل عدم جواز سقوط نون فعولن التي تسبق الضرب (فعو)، و (فع).
ويرى الأخفش أحقية سقوطها، كذلك يرى عدم سقوطها.
في اعتماد الطويل، لم نرَ إشارة من أقوال العروضيين إلى أي من الإخلال التركيبي والوزني، في حال ثبوت النون، بل ذكروا قاعدة بعيدة عمّا إن كان التغيير قد أخل بالنمط الموسيقي من عدمه، فلو افترضنا:
فعولن / مفاعيلن / فعولن / فعولن
= فعولن / مفاعيلن / فعولن ف / عولن
=فعولن / مفاعيلن / مفاعيلُ / فعْلن
في اعتماد المتقارب: وجدنا تأكيدًا على أنه لا إخلال بالوزن والتركيب في حال سقوط النون، يقول الأخفش: “وهو مع قبحه جائز، ولم نر شيئاً امتنع من الزحاف لإخلال بما بعده”.
وقوله: “ولم نر شيئاً امتنع من الزحاف لإخلال بما بعده”، صراحة على عدم تشكُّل البحر وتغير مادته الوزنية
وعند افتراضنا صحة هذا الرأي، وهو أنه عند ذهاب نون فعولن ستصبح لدينا تفعيلة مفاعلتن ليصبح القالب:
فعولن فعولن مفاعلتن
فسؤالنا ينبغي أن يكون هكذا:
هل عندنا هذا القالب ضمن الدوائر الخليلية أم لا؟
بدلاً عن قولنا “هذا كسر أو إخلال”!
أما عن شعر التفعيلة أو الحر فقد سبقت وذكرته في موضوع قبل هذا بالإمكان الرجوع إليه.
اقرأ أيضاً