فعولُ.. ارتباك التوقيع على السنبلة مراجعة موسيقية لنص للشاعر الموريتاني محمد ولد الطالب

محمد منصور

كلانا بنفس الطريق

وستون عاما من القتل تكفي

لكي يحتفي قاتل بالذي قتلَهْ

وستون عاما مضت

وها نحن نمشي على قدم الأخيلةْ

تصيح الظلال الطويلة من خلفنا

إلى أين يا تائهين؟

إلى أين يا تائهين؟

ونحن نحثُّ خطانا إلى المقصلةْ

لأنا أفقنا على زمن يكره الأسئلةْ

كلانا بنفس الطريق

فعش في تراتيل غيِّك وامرح

وأرسل مراثيْك حين تمر الصقور

وتعلو الظلال بأجفاننا المثقلةْ

فرغم الجراح.. ورغم الحراب

سنعبر أحلامنا

ونعلِّم أطفالنا صلوات النخيل

إذا ما تأجَّلت المرحلةْ

سنجمع ريش الحمام

لمن تأكل الطير خبزا على رأسه

ولمن يعصر الخمر من دمنا

كلانا بنفس الطريق

وسميت طفلك بالأمس يعقوب

لكنَّ طفلي أنا اليوم سميته حنظلةْ

ومهما فعلت فلي حنطة

وأعرف كم عدد الحبِّ في السنبلةْ

توقيع على السنبلة، محمد ولد الطالب، موريتانيا*..

ممَّا استوقفني في هذا النصِّ عبارة (لكي يحتفي قاتل بالذي قتله)، ليس من ناحية اللغة أو الصورة، بل من ناحية الموسيقى حيث أحسست بارتباك ما تبدو معه هذه العبارة غير متَّسقة موسيقيا مع بقية النصِّ؛ ممَّا حرَّك فِيَّ نقدا دفينا لأحد أسرار الشعر (الموسيقى).

قبل الدخول لما أريد قوله حول موسيقى هذا النصِّ فكرت في الذهاب لبعض كتب العروض لعلِّي أجد فيها ضالتي المنشودة، لكنِّي لم أعثر عليها في (علم العروض التطبيقي للدكتورين نايف المعروف وعمر الأسعد)، ولا في (ميزان الذهب في صناعة شعر العرب للسيد أحمد الهاشمي)، ولا في (القصيدة العربية عروضها في القديم والحديث للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي)..

فقط استهوتني عبارة في (موسوعة العروض والقافية، إعداد الأستاذ سعد بن عبد الله الواصل) -والموسوعة نسخة إلكترونية في المكتبة العربية الثقافية- هذه العبارة تقول عن بحر المتقارب “يجوز في حشو هذا البحر: (1) القبض (حذف الخامس الساكن) فتصبح (فعولن): (فعولُ)، وهو زحاف سائغ مستحسن، سوى (فعولن) التي قبل الضرب الأبتر، وقيل: لا يجوز قبلها إلا إذا كان الضرب بعدها صحيحا، وسلامة هذا الجزء من القبض تسمى اعتمادا”.

هذه العبارة وإنْ أتت غير معللة للحكم الصادر منها إلا أنها عبارة صحيحة ولا يمكن التشكيك في صحتها.

أمَّا أنا حين أقدم نقدي لموسيقى هذا النص فالحكم سيكون معللا حتى لا يُترك مجالٌ فيه على صدق دعواي.. وبالعودة للنص السابق نجد الشاعر بنى نصه على أسلوب الشعر الحر “وهو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت؛ وإنما يصح أنْ يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر، ويكون هذا التغير وفق قانون عروضي يتحكم فيه…”، (الأعمال النثرية الكاملة لنازك الملائكة، الجزء الأول، المجلس الأعلى للثقافة، 2002م، ص83).

كما جاء النص مقفى و”مجيء القافية في آخر كل شطر، سواء أكانت موحدة أم منوعة، يعطي هذا الشعر الحر شعرية أعلى…” (نفس المصدر ص69).

لن أتردد لحظة في نقد عروض الشعر العربي، ونقد الصنمية في تعاطينا مع موسيقى الشعر.. فكل ما ورد عن القدماء هو كلام جليل يُخْطئ مخالفه وحتى ناقده؛ لأنه النص الذي يعلو ولا يُعلى عليه..

هنا أورد مثالا حيًّا على صدق دعواي في الحاجة لغربلة موسيقى الشعر العربي (فعولن) تفعيلة (المتقارب) هذه والتي بنى عليها الشاعر إيقاع نصه ممَّا يطرأ عليها من تغيير حذف الساكن الأخير منها لتصبح (فعولُ) وهو زحاف سائغ مستحسن في حشو (المتقارب)، -والحشو هو جميع التفعيلات التي تسبق الضرب في الشطر- وهذا الزحاف هو أيضا مكمن الإرباك الموسيقي في هذا النص، وممَّا يطرأ عليها حذف المتحرك والساكن الأخيرين منها لتصبح (فعو)، والضرب -وهو آخر تفعيلة في الشطر- جاء محذوفا تحولت فيه (فعولن) إلى (فَعُوْ).

وهذا التغير الطارئ يبدو جليا مربكا للتفعيلة الأخيرة في الشطر وهي تفعيلة الضرب إذ لا يمكن أن يأتي الضرب تارة (فعولن) وتارة أخرى (فعولُ)، وهذا ما يذكره العروضيون.. لكن الأمر أدهى وأكبر من ذلك، فالتغير الحاصل على التفعيلة ما قبل الأخيرة وهي آخر تفعيلة في الحشو، هو مربك للقصيدة أيضا..

بالنظر للقصيدة السابقة نجدها في المقطع المشتمل على القافية ختمت بهذا الشكل:

فعولن فَعُوْ

إلا مقطع واحد ختم هكذا:

فعولُ فَعُوْ

وهذا المقطع هو (لكي يحتفي قاتل بالذي قتله)، بالتحديد (لذي قتله)، بالنظر لما سبق قد لا يبدو الأمر مربكا موسيقيا، لكن لاحظ أنَّ:

فعولُ فعو = مفاعلتن

النتيجة أنَّ القصيدة تحولت موسيقيا من (المتقارب) إلى (الوافر).. لكن هل مجرد التحول من تفعيلة إلى أخرى يكون مربكا للموسيقى؟ لا.. فالأمر ليس كذلك، فالأمر بالنسبة للأذن قد لا يتفق مع قواعد العروض.. لكني أدعي أنَّ بعض الآذان قادرة على تحديد المربك للقصيدة موسيقيًّا بعيدا عن قواعد العروض وإنْ كانت صحيحة..

الأمر هنا أنَّ مجيء التفعيلة الأخيرة في حشو الشطر (لكي يحتفي قاتل بالذي قتله) وتحديدا (لذي قتله) قد أدى إلى ارتباك النص موسيقيا، فالقبض في تفعيلة الشطر ما قبل الأخيرة، وهو الزحاف السائغ المستحسن في حشو (المتقارب)، والذي تحولت فيه (فعولن) إلى (فعولُ) قد أربك النص موسيقيا عند اتصاله بتفعيلة الضرب المحذوفة (فعو)؛ لذلك تكون هذه التشكيلة الموسيقية (فعولُ فعو) التي هي (مفاعلتن) خارجة من تشكيلة (المتقارب) داخلة في تشكيلة (الوافر)، و(فعولُ) هي سبب ارتباك التوقيع على السنبلة.

لغويا:

يقول الشاعر: وأرسلْ مراثيْك حين تمر الصقور.

فأرسلْ مراثيَك (منصوبة) حين تمر الصقور؛ فالصقور (فاعل) حين تمر تحرك المراثيَ (المفعول به) نصبا وإنْ كان المفعول به منقوصا (والمنقوص هو الاسم المختوم بالياء وهو المراثي هنا).

………………..

* محمد ولد الطالب شاعر موريتاني معاصر، فاز بلقب وصيف أمير الشعراء في مسابقة أمير الشعراء لعام 2007م، وقصيدته توقيع على السنبلة إحدى قصائده التي شارك بها في المسابقة.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×