[1ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. الحب.. الشك.. الفقد.. السفر صوفيا قبل ديفيد

زكي اليحيى

قلما نجد المتعة في قراءة الروايات الصادرة حديثا. فقد استحالت قراءة الروايات الصادرة في الفترات الأخيرة لفعل معرفي صرف يهدف لمتابعة ورصد ما يدور في المشهد الثقافي فقط. وأظن أن رواية “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” للدكتور أحمد شويخات هي من هذا القليل الذي يعيدنا إلى علاقة القارئ بالرواية بما تحمل من متعة وتشويق وتوتر مستمر. أسميها الرواية الـ “Old Fashion”. وذلك فقط من جهة التشويق والإثارة والرغبة الجامحة لمعرفة خواتيم الأحداث. أي بالمعنى الإيجابي للتسمية.  إذ وبلا شك هي رواية حققت الكثير مما يتعلق بالحداثة والمعاصرة وكسر الأنماط وفتح تساؤلات حقيقية.

 وبصراحة فقد مللنا في الفترة الأخيرة من معظم (البوكريات) والمترجمات واللعب بالثالوث، بالرغم من غزارة الإنتاج وبالذات على المستوى المحلي.  كنت محتاجا فعلا لرواية بهذا الحجم من التشويق أطوي فيها عشرات الصفحات يوميا غير ملتفت للوقت، بالرغم مما كنت أعتقده من أن المقابلة التي أجريت في “الشرق الأوسط” مع الدكتور أحمد شويخات وقرأتها صدفة قد “أحرقت” أو سوف تقلل من متعة القراءة، إلا أن مستوى التشويق وتعدد الأصوات والزوايا والمحاور في الرواية أبى إلا أن يوصلني للصفحة الأخيرة وبوتيرة عالية.

بطل الرواية أو عنوانها، هو الأمريكي ديفيد بوكاتشيو والذي تربى في سان فرانسيسكو وقام بزيارة لعمه المسؤول عن قسم الترفيه في شركة أرامكو. تزامنت هذه الزيارة مع الحفلة الشهيرة التي أقامها مركز الترفيه للمغني كيني روجرز في عام ١٩٧٧. يتعرف ديفيد على رجب سمعان وهو من ساكني سيهات ومهتم مثله بالترجمة. حب ديفيد للسفر والمغامرة جعله يلتحق كمترجم بالجيش الأمريكي في العراق وذلك في عام ٢٠٠٥. تصاب والدة ديفيد “الأم صوفيا” بجلطة مما يضطره لطلب التسريح من مهمته.  تتعثر الموافقات لطلبه ضمن تعقيد في الظروف، فكانت فرصة للرواية لكي تصطاد لحظة التعقيد هذه، لتصنع من هذه اللحظة البسيطة مساحات متقاطعة امتلأت بالتشويق والحوارات الممتعة.

تعددت ثيمات الرواية مما شكل زوايا متنوعة وكأنها مطلات تشرف على الأحداث والشخوص.  فمن الحب إلى الشك إلى الفقد إلى السفر. ومن التاريخ إلى الجغرافيا إلى السياسة.  والموسيقى والشعر والرسم. وبالتأكيد سوف أجد من يضيف إلى هذه القائمة أو يختلف في تقويم مساحات وجودها.  ولإعطاء كل ثيمة ما تستحق، تعددت العصور والأماكن والفنون، والأهم، تعددت الأصوات والشخوص. فالأصوات الموازية والمتعددة كان لها من الحضور والفاعلية ما يجعل تكوين ديفيد نفسه (بافتراض أنه البطل) محتاج لها؛ على نحو العلية!

الدكتور أحمد الشويخات

أظن من بين جميع الأصوات المصاحبة تنفرد الأم “صوفيا” بجاذبية وكاريزما رائعة تجعل منها مكونا رئيسا ليس لديفيد فقط وإنما لجميع المحيطين بها.  فبالرغم من أن صوت “صوفيا” ظل بنفس مستواه “Monotone” سواءً وهي معشوقة بائع الورد أو وهي حارس الخبيء من آل بوكاتشيو بل حتى بعد تعرضها للجلطة! إلا أنها تمتلك من خفة دم حد الكوميديا ما جعل من المونوتون مقبولا ولا يبعث على الملل.  كوميديا صوفيا تذكرني بدور اليهودي في رواية “اللوح الأزرق” لجلبرت سينويه.  حيث ستجد تمسكاً شديداً بالقيم والتاريخ والأساطير الممزوجة دائما بكوميديا وخفة دم رائعة.

ولكن وبغض النظر عن خفة الدم، لا يُتوقع من جميع شخوص الرواية أن تكون لها منحنيات صعود وهبوط. بل لعلني لا أذهب بعيداً لو قلت إن سرديات صوفيا لتاريخ آل بوكاتشيو وكأنها رسالتها في الحياة يتطلب هذا المونوتون ليس على مستوى الأداء فقط، بل على مستوى الشخصية ككل.  أظن أن جزأً من صوفيا هو انعكاس لصورة معظم المجتمعات المتعلقة بتاريخها وكيف لأسطرة هذا التاريخ أن تحمله عبر الأجيال وكيف من الممكن للمونوتون أن يكون لازمة أو ضرورة لكيلا يترك أي مجال لنفاذ النقد أو التساؤلات.  لكن وفي غمرة هذا المونوتون تتألق الأم صوفيا بـ (سلطنة) رائعة تشرعن فيها روايتها الخاصة مقابل ما يذكره المؤرخون! فبداية الفصل السابع تروي لورا أن الأم صوفيا تكرر معنى أثيرا عندها وهو أن التاريخ يرويه رجال ونساء مثلنا يصيبون ويخطئون…إلى أن ختمت بـ “لا تصدق دائما ما يقوله المؤرخون”.

كل ذلك بالتأكيد ساهم في تكوين ديفيد القيمي والثقافي، أي نظرة المثقف المشكك، المتحرر من جهة والمستوعب للتاريخ من بعده الأنثروبولوجي إلى أساطيره وأغانيه. فديفيد بهذا التكوين براغماتي في تعامله مع التاريخ، فهو يستخلص منه القيم والأدب والفنون والقضايا الإنسانية، بل ويستمتع بكل ذلك، لكن بدون التورط في الحكم بواقعيته من عدمها.

يُتبع غداً

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×