زين العابدين.. ابن الدّعاء وفخر السجود
ليلى الزاهر
من التّصورات الخاطئة التي أدلى بها بعض المؤرخين أن الأئمة من أبناء الحسين قد اعتزلوا العالم بعد موقعة كربلاء وانقطعوا للعبادة والإرشاد، بينما انصرف الكثير من الناس إلى التفكير بوصف الأئمة أناسًا مظلومين فحسب. أُقصوا من مراكز القيادة وأُبعدوا عن طرق الحكم والقضاء، إلا أن الإمام زين العابدين مارس ما يُثبت عكس ذلك فتخطيطه الفكري وتوعيته العقائدية للأمة جعلت الإمام الشافعي يعدّه ُ أفقه أهل المدينة كما أشار إلى ذلك سفيان بن عُيينه حيث قال :(مَا رَأَيْتُ هَاشِمِيًّا أَفْضَلَ مِنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَلَا أَفْقَهُ مِنْهُ).
لذلك يُعدُّ الإمام زين العابدين المؤسس الثاني للمدرسة الإسلامية وقد كان منزله مدرسة يزدحم فيها الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد بُناة الحضارة الإسلامية وما أحبّ الإمام في حياته أحبّ من العلم وطلابه، يجلس معهم الساعات الطويلة، يُجمل المسائل ويُفصّلها حينًا وليس هذا بالأمر الغريب فقد تعهده الإمام علي بالرعاية وتربية الأحفاد وكان والده الحسين يصحبه أينما ذهب، كما تُشير الكثير من المصادر إلى أن الإمام الحسين دخل يوم عاشوراء على ابنه زين العابدين وأوصاه بوصايا الإمامة وسلّمه بعضًا من مواريثها كخاتمه
لذلك فلا عجب أن خرجت تلك الكنوز من بين يديه فهو الشاهد على نهج البلاغة، وهو ابن الدعاء وأريج الحياة الهادِئة زين العباد، فخر السجود، سليل المُصاب.
صاغ أحزانه في صحيفته السجاديّة، ووضع ثُقل الآداب الإسلامية في رسالة الحقوق.
واستخدامه أسلوب الدعاء جاء معبرًا عن وظيفته كإمام مفترض الطاعة، يهدر صوته بابتهالات راقية تعانق فضاءات العقول قبل أن تلامس المشاعر.
إن حياة الإمام زين العابدين واقع يزخر بإيجابية المُشاركة الفعّالة لأنشطته المختلفة التي اجتازت قلوب محبيه واستشعرت قيادته وإن كانت غير رسميّة فالناس في مختلف أزمنتهم لا يُعطون الزعامة مجانًا فلا يحتل القلوب إلا السّخي الذي يستفيد منه الناس فائدة عظمى. كما أن زعامة الإمام السّجّاد في عصره لم تكن صدفة أو اكتسبها لانتسابه إلى الرسول الكريم، فالمنتسبون للرسول كُثر بيد أنهم لا يحظون بنفس المرتبة فكلّ بحسب دوره الإيجابي وخير شاهد على ذلك ما سجله الفرزدق عندما قال في المناسبة المشهورة التي أنشد فيها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ.
لقد اختطف الإمام زين العابدين جميع الأنظار واستطاعت قيادته النبويّة أن تشقّ له طريقا لاستلام الحجر بين جموع الحجاج المحتشدة آنذاك لم تُشقّ لهيبة أحد.
هذه المظاهر الأنيقة التي لامست الفخامة والزعامة نابعة من عشق القلوب للأئمة سلام الله عليهم وقد برهنت على دورهم الفعّال في الحفاظ على إرادة الحياة تحت جناح الإسلام، مما يجعلنا نتوق لإمام ننتظر قدومه، تواترت أخباره منذ قرون عديدة واستقرت في سويداء القلب ورغم معرفتنا بزمن ميلاده إلا أن هناك سريّة تامة تدور حول انبلاج نهاره.
وإلى أن يحين ذلك اليوم نسأل الله أن نسير على خُطاهم وأن يلهمنا الله تعالى تقصّي أنوارهم المنبثقة من نور السماء.
السلامُ على من صنع للدعاء بلسما شافيًا وتِرْيَاقا ناجعًا، وكان سلاحه البكاء على خزانة العلم .