الشعائر الدينية.. ليست عنواناً للتطرف الفكري الديني
زكريا أبو سرير
قريبًا يحل علينا شهر محرم الحرام الذي يرمز لذكرى شهادة سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، وهو السبط الثاني لخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيب قلوبنا ونبينا الأكرم المصطفى محمد (ص).
وبما أن هذه الذكرى الأليمة والفاجعة الإنسانية والدينية قد أحدثت انفجارًا عميقًا في المشاعر والأحاسيس في ضمير الإنسانية والأمة، وشكَّلت رقعة من الألم لا يمكن سدها بأي شكل من الأشكال، فمن الطبيعي لكل انفجار عميق أن يترك أثرًا بالغًا وأليمًا، ويشكِّل انطباعًا في نفوس الآخرين، وقد يصل لمئات السنين، حتى وإن كان الحدث غير مخطط له، فإن أثره يظل عميقًا شئنا أم أبينا؛ فما بالك لو كان الحدث مخططًا له ومدروسًا بعناية تامة؟ وهذا بطبيعة الحال سوف يكون له أثر أكبر وأعمق.
ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) الخالدة حدث كان مخططاً له قبل ولادته الشريفة، وكان هذا التخطيط محاطًا بعناية القدير ورسوله الكريم المصطفى محمد (ص) والأئمة المعصومين الأطهار (ع) قبل حدوثه وبعد وقوعه.
النهضة الحسينية المباركة والخالدة كانت لها ظروفها وأسبابها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حتَّمت على الإمام الحسين التحرك نحو إطلاق مشروع الإصلاح و التغيير نحو مستقبل زاهر بالعدالة والقيم والمبادئ الإسلامية الحقة الذي بشر بها وطبقها جده وأبوه فاختار طريق الشهادة، إذ كان هو الخيار الوحيد الذي كان أمامه ولا يوجد خيار آخر عنده غير هذا الخيار الذي احتاج أن يقدم له كل ما يملكه إلى درجة أن يُقطع جسده الشريف أوصالًا من قبل أعداء الله ورسوله، كل ذلك من أجل نجاح ثورته الإصلاحية المباركة، وبما أن مشروعه المبارك هو الإصلاح بكل أبعاده الإنسانية والدينية والاجتماعية التي تمثلت في إصلاح ما أحدثه الماضي والحاضر والمستقبل؛ لهذا صنع هذا الحدث الكبير مجموعة من المشاهد المؤلمة والفجيعة والقاسية، وخرجت حتى عن المألوف الإنساني الذي لا يمكن أن يتصوره أو يتخيله أحد في الوجود، ولا يمكن أن تتكرر كذلك لا في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد لأي أحد؛ لأنه (وبكل تأكيد) حدث استثنائي بكل المعايير من حيث القائد والأنصار والقضية والزمن والأعداء والوحشية في التعامل والقتل وقساوة القلب.
ومن وحي هذه الفاجعة العظيمة جاءت الشعائر الحسينية المباركة، منها قبل حدوثها بستين عامًا من قبل رسول الله (ص) وهي شعيرة البكاء على سبطه حين ولادته المباركة عندما بَشر نبي الرحمة بولادته الشريفة حينها تذكر رسول الله ما سوف يجري على سبطه وعلى أهل بيته وأصحابه، فأقام أول مأتم عليه، ومنها ما بعد شهادته المباركة من قبل الأئمة الأطهار (ع) في دعم استمرارية ذكرى فاجعة كربلاء وبالخصوص تفاصيل ما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) وبدقة متناهية، فأصبحت هي الفاجعة الكبرى التي حلت على رسول الله وأهل بيته الأطهار والتي ارتكبها يزيد بن معاوية وزمرته الفاسدة.
وكان هناك طلب من الأئمة الأطهار من شيعتهم بإلحاح لإحياء المناسبة واستذكار القضية الحسينية وإظهار أجر وثواب إحياء هذه الشعائر عند الله تعالى.
بعدها تطورت أشكال الحزن والأسى على أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) وأصبحت ضمن الشعائر الدينية، وكانت تحت نظر علماء الدين الكرام، فكانت الشعائر كإظهار الحزن بجميع أنواعه وأشكاله، وكذلك إيقاف جميع المناسبات الاجتماعية كالأفراح بجميع أنواعها، وحتى مناسبات الأحزان الطبيعية كفقد عزيز أو غير ذلك، كلها ترفع لأنه لا حزن يتساوى أو يعلو على أحزان آل محمد (ص).
وكثير من الشعائر الحسينية المختلفة التي يمارسها المسلمون الشيعة في أنحاء العالم تعبِّر عن عمق ألمهم مما أحدثته الفاجعة، ومواساة لنبيهم وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، إذ إن شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) ليست محدودة بشكل أو نوع محدد.
والشعيرة هي عبادة ورسالة؛ عبادة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى وفق منظور عند الشيعة، ورسالة يبعثها إلى كل ظالم وفاسد ومتكبر أينما كان موقعه، ورسالة الإمام الحسين (عليه السلام) ما دعا وصرح به بكل شفافية وهو الإصلاح في أمة جده المصطفى (ص) وما سار عليه أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وما صرحت به مولاتنا السيدة زينب عليها السلام في مجلس يزيد بن معاوية في الشام حينما قالت في خطبتها في الشام وهي تؤكد على القيم والمبادئ التي قام وثار من أجلها أخوها الإمام الحسين فصرخت في وجه يزيد بن معاوية: “يا يزيد، كد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا”، فهذه الصرخة كانت في وجه يزيد ولمن يمثل يزيد في كل زمان ومكان، وفي وجه كل ظالم على طول الدهر، وهم يشكلون حزب الشيطان، والشيطان وأعوانه يمثلون العدو الأول لله والإنسان والأرض. أما الحسين وأهل البيت فهم يمثلون الله ورسوله والحق والعدالة طوال الدهر، وهم مع الله ولأجل إكرام الإنسان وعمارة الأرض، والله ناصرهم في الدنيا والآخرة.
وعندما تقام مراسم الشعائر الحسينية فإنها تدعو إلى الإصلاح والتمسك بالقيم والمبادئ الإسلامية الحقة، وهاتان الرسالتان المحملتان بالسلام والمحبة والمودة والأخوة معنية لكل فرد سواء كان ضمن الدائرة الإسلامية أو خارجها؛ فهي قيم ومبادئ إنسانية عليا، كما دعا لها صاحب هذه النهضة الإمام الحسين عندما خاطب القوم وأرشدهم ووجههم وذكرهم بالله وأيامه وبروح السلام والرحمة والمحبة والإنسانية، وهي تمامًا دعوة جده المصطفى محمد (ص) وأبيه أمير المؤمنين وأخيه الإمام الحسن الزكي المجتبى (عليهم السلام).
ولا يُفهم من طريقة إحياء شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) أنها عنوان سيئ لثقافة وفكر هذا الإنسان المتعبد والمتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ينبغي تقديم حسن الظن والخير وتعزيز روح الأخوة والألفة بين أبناء المجتمع، وبالخصوص بين المختلفين في الثقافة والفكر والاتجاه؛ لكي تسود بينهم لغة المحبة والتعايش وروح الإنسانية والأخوة، ويكون أبناء المجتمع الواحد على قلب رجل واحد. بعد ذلك نستطيع أن ندعي ونقول: قد وُفقنا في فهم بعض من جوانب هذه النهضة الحسينية المباركة، وسوف نلمس كيف أن الحسين يجمعنا ولا يفرقنا.