“عباس الحساوي”.. هرب متستراً بالظلام ليلحق بوالده في القطيف حمل قصصه الصامتة 96 سنة ولم يمد يده إلى أحد

بدأ حياته بـ "محش".. وعمل "أكـّارْ" و "سمّاك".. وبائعاً متجولاً

صُبرة: خاص

رجل عاش في هامش الهامش، لكن تفاصيل حياته تُشير إلى نمط حياة مجتمع كامل، يتوزّع بين الأحساء والقطيف. نمط الفلاحة، الإيجار، أعمال البحر الشاقة، كدّ الكادحين في سبيل لقمة العيش الطاهرة..

هذا ما كان عليه الحاج عباس أبو ظفر الذي عرفه سكان القديح بـ “عباس الحساوي”، وتعاقبت أجيال في البلدة وما جاورها من قرى، على التعامل معه؛ ومرّت طفولاتهم بما كان يبيعه من فواكه المواسم. ورجالٌ كثر من القطيف ومحيطها تداووا على يديه.

عاش غنيّ النفس، ومات قويّ الروح والجسد. بقيَ حتى تخطّى التسعين مصرّاً على العمل، على رغم إلحاح أبنائه عليه بالراحة. لكن ذلك “الشايب” القصير القامة، الريفيّ في ملامحه، كان يحمل قصته بصمت، ويعيشها بقناعة، إلى أن اختفى من طرق القديح.

سبطه صالح دعبل سرد قصته وكتبها كاملة لـ “صُبرة”.

هارب من الأحساء

توفيت أمه وهو في الرابعة. واضطر أبوه إلى الهجرة من مسقط رأسه  “بني معن” في الأحساء، هارباً من تبعات ديون حاصرته من كل جانب، في “صُبرة” نخيل لم يتمكن من تأمينها لمالك بستان.

عاش والده في القديح، فيما بقي “عباس” مع أقربائه في الأحساء يعمل في البستان ويكدح من الفجر، حتى المغرب. كانوا أقاربه، لكنه في مثل حال اليتيم. و كل ما أرهقه التعب و الشقاء على صغر سنه شعر بالحاجة و الشوق إلى أبيه. وبقي على ذلك الحال حتى رقّ له قلب زوج أختٍ له، وعزم على تهريبه و إيصاله إلى أبيه في القديح.

أخبره صهره بالأمر، واتفق معه على التسلل والناس نيام، ومرافقة دليل ينقلهم إلى القطيف، ومنها إلى القديح. لم يكن لدى الصهر والطفل ثمن النقل، فتدبّر الصهر عرض “بشت” فاخر من إرث العائلة ثمناً للرحلة. وافق الدليل، وهرب الصغير برفقة صهره، وقطعوا المسافة من الأحساء إلى القطيف في 8 أيام.

حين وصلا إلى القديح؛ كان الوقت صباحاً. اتجه المسافران إلى عمدة القديح، وقتها، السيد رضي أبو الرحيّ، وسألاه عن بيت “الحساوي”، فساعدهما العمدة على الوصول إلى والد الصغير.

فريق الحساوية

يعرف سكان القديح إلى الآن حيّاً صغيراً يُسمّى “فريق الحساوية”. يقع ـ حالياً ـ غرب مبنى البلدية. وقديماً؛ كان الحيّ يقع خارج القديح القديمة التي كانت محاطة بسورٍ عالٍ. حمل الحي الصغير اسمه من اتخاذ مجموعة من المهاجرين الأحسائيين المكان مستقرّاً لهم. بنوا عششاً صغيرة تؤويهم، واندمجوا بالسكان مع الزمن.

ومثل هذه الظاهرة تكررت في قرى وبلدات قطيفية كثيرة، بتوافد مهاجرين من الأحساء أو البحرين واتخاذ جوانب القرى سكناً لهم. وبعض الأسر منهم فقدت أسماءها الأولى وتسمّت بـ “الحساوي” أو “البحراني”، منسوبةً إلى مواطنها الأصلية.

وبعض الأسر حملت أسماء القرى التي كانت فيها ضمن الأقاليم السابقة، أمثال “الشاخوري، الستري، الستراوي، المناميين.. الخ.

والد محطم

حين وصل “عباس” إلى بيت والده؛ وجده خالياً إلا من الماء. والمفاجيء للصبيّ الذي بلغ الحلم؛ أنه وجد لديه أخوين أنجبهما والده من امرأة تزوجها في القديح. كان أخوه “صالح” في عامه الثالث، و “علي” في شهر السابع. والمؤلم ـ أكثر ـ وأنه أدرك أباه طريح الفراش لا يقوى على الحركة، متأثراً بإصابةٍ موجعة.

كان والده يعمل في النقل عبر الدواب. وكان يستخدم 7 من الحمير. وفي وقت متأخر من ليلة عمل طويلة؛ مرّ بالمقبرة المعروفة بـ “رشالة” غربيّ “فريق الحساوية”. فلاح له منظر نار داخل المقبرة، ففزع الرجل، ونفرت الحمير معه، فما كان منه إلا الركض ليتعثر ويسقط وتدوسه الحمير وسط الظلام القاتم.

محش

تحمّل الصبيّ المصدوم مسؤولية مساعدة أبيه، وبدأ العمل فعلياً ليُطعم الأسرة الجائعة. أمسك “المحش”، وراح “يحش” ويجمع الحشائش ويؤمنها للفلاحين وأصحاب “المرابط”. أخذ الطعام يدخل البيت، وبدأ الصبي يجمع المال. بقي يعمل ـ ليل نهار ـ إلى أن جمع مالاً يكفي لشراء بقرة، وهذا ما تمّ، ليبدأ المنزل بإنتاج الحليب واللبن والروب وبيعه، ويتوفّر منه دخلٌ يسدّ جوع العائلة.

لكن هذا الكدح سرعان ما أصيب بنكسة حين توفي والده وهو في سن الـ 15. ولم ييأس الصبّي، فعمل أجيرًا في الفلاحة، عند الملا عبدالله الزين، ثم السيد محمد الخضراوي المعروف، في القديح، بـ “أبو أسعد”. واستمرّ مع السيد الخضراوي “عاملاً” حتى تزوج.

وبعد ذلك؛ انتقل إلى العمل مع “حجي أحمد العوازم” في نخله.

أكــّارْ

كان عباس قد بلغ مبلغ الرجال الناضحين، فقرّر الاستقلال في عمله. بدلاً من أن يستمر “عاملْ”؛ اتجه إلى أن يكون “أكّارْ”. وأول بستان استأجره يُسمى “شروف الصاغة”. وقد رزقه الله منه الخير الوفير، حتى أنه تمكن في السنة نفهسا من أداء مناسك الحج.

أمضى في “شروف الصاغة” 3 سنوات، ثم توفي مالك البستان، فقرر الورثة عدم استمرار عقد “التضمين” بينهم وبينه. فاستأجر نخلاً آخر اسمه “باب السلمي” المملوك لبعض آل الخنيزي. وفي ذلك البستان؛ بذل جهده وكدّ بلا توقف ولا راحة، وأمّن “صُبرة” المالك، ووفرّ مالاً ساعده على شراء قطعة أرض غرب البلدة ثم بناء بيت. بقي قائماً على “باب السلمي” 7 سنوات، لينتقل بعدها إلى نخل آخر اسمه “البدع” قريباً من مسجد “الحريف”. إلا أن انتهاء العقد لاحقه مجدداً، وضيّق عليه حياته، فاتخذ قراره أن يطرق باب رزق آخر.

سمّاك

توجه صوب البحر، وعبر “مقطع” تاروت على حمار، ليشتري السمك والربيان من الصيادين، ويأتي بها إلى القديح ليبيعه في سوق البلدة التي كانت تُعرف باسم “الوادي”. أشرك أخاه “صالح” معه، فصار يأتي بالأسماك في الصباح. وفي العصر يشارك “العامْلَهْ” في أعمال النخيل الموسمية، مثل “الترويس” و “التنبيت” و “التحدير” و “الصرام”.

في الدمام

تقدّم في العمر؛ وضعف على عمل البحر والنخيل. قرر الاتجاه إلى عمل أقلّ صعوبة. صار يذهب إلى الدمام يومياً، ويتجوّل في أحيائها القديمة، ليبيع “الورد” و “الكنار” و “الكعك” و “اللوز” والرمان. أمضى سنواتٍ طويلة في هذا العمل. يخرج مع بداية النهار، ولا يعود إلا والشمس على وشك الانغماس في المغيب.

لكن أثر السنوات، والمشي اليومي أخذ يتركان أثرهما في جسده. لم يعد يستطيع الذهاب إلى الدمام البعيدة. فقرّب منطقة عمله قليلاً. مارس البيع متجوّلاً في أحياء القطيف الشمالية في الصباح. وفي العصر يستأنف عمله في بلدته.

مشهد يومي

كان وجوده في أزقة القديح جزءاً من مشاهد البلدة المألوفة. لاحقه الأطفال ليشتروا منه فواكه المواسم. على قِصر قامته ونحافته؛ كان يحمل بضاعته في “كراتين” كثيرة. يُنزلها عند كل زبون. ثم يعيدها ويمضي متجوّلاً. بقي على حاله حتى طعن عقده التاسع. ولولا إلحاح أبنائه وأقاربه لما توقّف.

وجد “حجي” عباس نفسه بلا عمل، فتفرّغ لما يتفرغ له “شِيّاب” البلدة.. ملاحقة مجالس “القراءة”، والاستئناس بـ “السوالف” والذكريات.. وحين بلغ الـ 94؛ أصيب بجلطة في حلقه أفقدته الصوت وألزمته المستشفيات، إلى أن توفي وهو في الـ 96 عاشها متنقلاً من تعبٍ إلى تعب..

في ذروة إجهاده وتعبه كان لا يرجع إلى البيت إلا وفي يديه ما يفرح به أولاده و بناته. يعود باللوز والكعك والكنار والرمان، و “قروف النخيل” للشاي. ويكافيء بناته بـ “الزلابيا”، أو ورد الرازقي ليضعنه على شعرهن.

كان يحب الأطفال ويمازحهم و يلاطفهم ويغني لهم ولا يردهم إذا كانوا لا يملكون النقود.

كان في بيت “مربعة”، يرتادها “الشيّاب” فجراً مرة في الأسبوع، وكان يقرأ فيها الملا حسن المقيلي.

أخوه من أبيه صالح الحساوي

——–

أسر قطيفية تحمل أسماء مواطنها الأصلية

القطيف: صُبرة

تعيش في محافظة القطيف عشرات الأسر الآتية من مناطق خارجها. وبعض هذه الأسر حملت أسماء مواطنها الأصلية بسبب وصف الناس لهم في بداية هجرتهم إلى القطيف. ومن هذه الأسر:

من البحرين

  • البحراني: نسبَاً إلى البحرين، ولكن صفة “البحراني” ذات دلالة عقدية في البحرين نفسها، فهي تعني “الشيعي” من سكان البحرين تحديداً.
  • البلادي: نسباً إلى البلاد القديم.
  • الدرازي: نسباً إلى الدراز.
  • الستري، الستراوي: نسباً إلى جزيرة سترة.
  • الشاخوري: نسباً إلى الشاخورة.
  • العالي: نسباً إلى عالي.
  • العرادي: نسباً إلى عَراد.
  • الماحوزي: نسباً إلى ماحوز.
  • المقابي: نسباً إلى مقابة.
  • المناميين: نسباً إلى المنامة.

من مواقع أخرى

  • البصري: نسبة إلى البصرة في العراق.
  • التركي: قد تكون نسباً إلى اسم “تركي” أو إلى الأتراك.
  • الجبيلي: قد تكون نسباً إلى جبيل الأحساء، أو جبيل الساحل.
  • الحساوي: نسباً إلى الأحساء.
  • الحليلي: قد تكون نسْباً إلى قرية الحليلة الأحسائية، أو إلى قرية قطيفية منقرضة قرب القديح. (مكرر)
  • الدهناوي: نسباً إلى صحراء الدهناء (بين ساحل الخليج ونجد).
  • العسيري: قد تكون نسباً إلى عسير.
  • العماني: نسباً إلى عُمَان.
  • القصيمي: نسباً إلى القصيم.
  • القطري: نسباً إلى قطر.

‫5 تعليقات

  1. رحمك الله ايها الخال العزبز
    الخال عباس كما قيل قديماً لكل واحد نصيباً من اسمه سمى عباس على اسم عمه الشهيد عباس ابوظفر الذي قتل في معركة كنزان، وبعد وفاة عمه تزوج والده احمد بو ظغر بزوجة اخيه لينجب ابنا منها اسماه عباس تخليداً لذكرى أخيه الأكبر عباس ، كان للخال عباس اختين اكبر منه مريم وامنه عاشا في الأحساء وتوفيا فيها
    عاش من اقربائه ردحا من الزمان وتوفيت امه وعمره 6 سنين لينقله جدي ابراهيم الجاسم عليه الرحمه للقطيف وعمره 11 سنه لوالده في القطيف وكانت الرحله على الجمال وبمجرد وصول الخال عباس القطيف بدأت صفحة الجهاد وطلب لقمة العيش مثابراً وصابراً حتى كون نفسه وعائلته كما هو مذكور في المقال
    رحمه الله وأوسع نزله وجعل مثواه ومثوى ابيه واخوته صالح وعلي الجنه مع محمد واله الطاهرين

  2. قصة واقعية تمتاز للتماسك و التسلسل الجميل القصصي ، تخاطب اعماق النفس في القراءة ، موفق الكاتب في هده القصة الواقعية

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته معكم
    ابومحمد الحساوي
    من قرية بني معن
    اذا ممكن اَي رقم حق أبناء عباس الحساوي
    لتواصل معاهم

    صُبرة:
    نأمل إرسال رسالة واتساب على الرقم 0545622950

  4. رحمه الله.. قصة كفاح مؤثرة فعلا .. هي نموذج للكثير ممن عاصروا فترة ضنك العيش ولم يمنعهم ذلك من السعي الحثيث المليء بالتعب والمشقة لجلب قوت يومهم واسعاد من حولهم بكل الوسائل.. جميل ان يتذكره اهله واهل بلدته بالذكر الطيب فرحمه الله

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×