معجبو جاسم الصحيح “يتغدون شعراً” في بيت نصر الله

صُبرة: خاص

لا يخذل جاسم الصحيّح معجبيه، ولا يعتذر، ولا يؤجّل التلبية.. ولو في عزّ الظهر. وهذا ما كان عليه أمس، في مجلس الإعلامي محمد رضا نصر الله الذي دعاه إلى غداءٍ حضره أصدقاء مشتركون للضيف والمُضيف، في حيّ المشاري الغربي، بالقطيف.

كانت ظُهرية شعرٍ، بدلاً عن “أمسية” أو “أصبوحة”. لا منصّة ولا “مايكرفون”. في صوت الصحيح ما يكفي من الجهر بالشعر، وفي الحضور من يُصغي وينتظر غواية الكلام.. الحلال. حين قارب نصاب المدعويين على الاكتمال؛ بدأ نصر الله حيلة الاستدراج. والشاعر الذائع الصيت المليئة سيرته بالجوائز الكثيرة؛ يحمل في ذاكرته ـ وذاكرة جواله ـ ما يُعينه حتى على إقامة فعّالية كاملة، بشعرها ونقاشها. وبروحه “الحساوية” الودودة؛ بدأ من الذاكرة:

في كل عضوٌ منكِ روحُ تقىً

تضفي عليه جمالهُ الأنقى

فكأن خصركِ وسطَ عُزلته

مُتَصَوفٌ للعالم الأبقى

وكأنَ جيدكِ في استقامتهِ

متمسكٌ بالعروةِ الوثقى

في الخصرِ ما في الجيد من ورعِ

لا تسألي من منهما الأتقى

وجوارح بهواكِ قد غرِقت

فأنا هنا سيلٌ من الغرقى

وأنا الضحايا في حقيقتهم

لا تطلبي من غيرهم صِدقا

هَيَّا اعشقيني كي يتاح لنا

أن نستعيد لنفسنا الخلقَا

إن لم تخوضِ البحر ذات هوى

قبلي ولم تستكشفي العمقَا

ففراشةٌ في النار واحدةٌ

تكفي لأن نتعلمَ العشقَا

هيا اعشقيني كي نطير إلى

أقصى المدى ونوسعَ الأفقَا

وعلى العناق نرى مجرتهُ

عنقاً تشدُ على الهوى عنقا

زنداكِ ميزان بثقلهما

يزن المدار الغربَ والشرقَا

لا ترفعي زنداً بمفردهِ

كي لا يميلَ الكوكبُ الأشقى

غداء شعري

تغدّى الحضور بالشعر قبل جلوسهم إلى المائدة المتنوعة الأطباق. ثم تناولوا التحلية شاياً و “عفُّوسة” مُعدة في البيت.. وتناولوا الشعر مجدداً. جاء الصحيح وصديقاه الشاعر محمد الحرز وعبدالعزيز السلطان من الأحساء استجابةً لدعوة نصر الله. لكنّ الأخير ربطه بشعره، وحرّك جو المجلس بطلب المزيد من الشعر. حسناً؛ هذا ما تمّ، واستأنف الضيف أداءه، وحدّد للمجلس منصّة في مكان جلوسه إلى جانب المضيف، في محضرٍ محسوبٍ على النخبة.. نخبة تُبجّل الشعر الجميل.

وهنا راح الصحيح يُنشد “هَدْهِدْ لظاكَ”.. في رحاب الإمام (علي) عليه السلام:

هَدْهِدْ لظاكَ! إلى متى الغَـلَـيَـانُ؟!

حُمَّتْ بــوَهْـجِ جراحِكَ الأزمانُ!

غضبانَ تقتحمُ العصورَ كأنَّما

يرميكَ من أحشائِـهِ، بركانُ

سَكَنَـتْ حروفُ (النفيِ) صوتَكَ، وانتمَى

شرفًا إليكَ الرفضُ والعصيانُ

(تسعَى) و(مَرْوَتُـ)ـكَ المروءةُ، و(الصَّفا)

حيث الـوَفا في الأوفياءِ يُصانُ

يا صورةَ الإنسانِ مِلْءَ كمالِهِ..

لولاكَ كيف يُـعَـرَّفُ الإنسانُ؟!

عودة إلى الغواية

ومن هذا الشعر المحسوب على شغف العقيدة، عاد الصحيح إلى الغواية التي بدأ بها ظُهرية الشعر:

من أُفْقِ وجهِكِ فاضَ الوحيُ وانهمرا

كأنَّما اللهُ قد حَـيَّى بـكِ البَـشَـرا

كأنَّما اللهُ يُغرينا لــــــــــــنَـسْـأَلَـهُ:

أَصُدْفَـةً كانَ هذا الوجهُ، أَمْ قَـدَرا؟!

أهواكِ أهواكِ مقدارَ انهيارِ فـمـي

يومَ التقينَا، وظَهْرُ الأَحْرُفِ انـكَـسَـرا!

أهواكِ مقدارَ ما فيروزُ بهجتِـنا

أضاءَ في أُفُقِ الرُّوحَينِ وانتشـرا

أهواكِ مقدارَ ما عيناكِ أَنْـبَـتَـتَـا

ما بين رمشيهِما، الواحاتِ والجُـزُرا

هل تذكرينَ (عَـلِـيًّـا) في تَـهَـجُّـدِهِ

كأنَّ محرابَـهُ الـتَّنُّـورُ مُـسْـتَـعِـرا!

أهواكِ مقدارَ ما صَـلّـى (أبو حسنٍ)

وِرْدًا، وأكثـرَ مِـمَّـا أَطْعَمَ الـفُـقَـرَا!

الآنَ (عصرُ ظهورِ) الحُبِّ في عُـمُـري

ومن (علاماتِـ)ـهِ أنْ يشطرَ الـعُـمُـرا

ويلتقي حولكِ الشَّطْرَانِ في نَهَرٍ

 من العناقِ، فـقُومي نصنع النَّهَرا

طُوبى لـقلبٍ وإنْ طال العذابُ بهِ

يأبى سوى الحب (مهديًّا) و(مُنتَظَرَا)

الـحب يبتكرُ الإنسانَ من عدمٍ

فـطالما انقرض الإنسانُ وابتُكِرا!

فاصل المتنبي

لكنّ الصحيح لم يسرق الظهرية كاملة.. ثمة فاصل نقاش قطع الإنشاد. بدأ النقاش بإثارة نقطة تمس عمر الإبداع عند المبدع. فتقَ نصر الله الحديث باستشاهده برامبو الذي قدم مشروعه الشعري في مرحلة المراهقة قبل أن ينصرف إلى التجارة. ثم تشعب الحديث، عند بعض الحضور، إلى مقارنة بين شاعرين عربيين مهمّين، طرفة بن العبد وأبي القاسم الشابي، وكلاهما قدّم مشروعه الشعري ومات قبل سن السادسة والعشرين، بينما احتاج المتنبي إلى تجاوز الخمسين ليُنهي مشروعه.

ثم وقع المتنبي بين آراء الحضور.. وقال حسن الزاير إن سر خلود المتنبي هو كونه واضع نظريات في علم النفس. وخاض الحضور نقاشاً معه في تفسير تجربة المتنبي. كان نقاشاً جادّاً وعفوياً، ومنطوياً على إشارات إلى فهم الحسّ النفسي عند المتنبي. وقبل أن يطغى حضور المتنبي على المجلس تناولاً ونقاشاً؛ استعاد المضيف دور الضيف، وحرّضه مجدداً على الغواية.. فاستجاب الضيف:

وأنا انطلاقُ الريحِ حاملةً

 شَغَفًا يَفُلُّ جدائلَ النَّخلَةْ

وعلاقةٌ ما بيننا كَمُلَتْ

كعلاقةِ الأجفانِ والكُحلَةْ

هَتَفَ المَصَبُّ بِنَا فـبَاكَرَهُ

مِنَّا (الفُرَاتُ) مُخَاصِرًا (دِجلَةْ)

نهرانِ ما انكفآ.. كأنَّهُما

من مُتعَةِ الجَرَيَانِ في حَفلَةْ!

جئنا نُلَبِّي صوتَ رغبتِنا

بأصابعٍ فَرَّتْ من (الدُبلَةْ)

ونَخُطُّ للتقويمِ مَرجِعَهُ:

ما بَعدَ موعدِنا وما قَبلَهْ!

الغَزوُ يلهثُ بين أوردتي

ويَشُدُّ في أقواسِهِ نَبلَهْ

والخنجرُ البدويُّ مُحتَدِمٌ

شَحَذَ الهوى في غمدِهِ نَصلَهْ

والحَملَةُ الأُولى قد انطلقتْ

وغرائزي خَيَّالَةُ الحَملَةْ

يا غفلةَ الأقدارِ عن عُمُري..

الصَّحوُ سيفٌ جارحُ الغَفلَةْ!

وأنا الفتى المنسولُ من عَطَشٍ

فاسقيهِ حتَّى تقطعي نَسلَهْ

كان النص الأخير خاتمة وقت الشعر، وتمهيداً لعجلة الضيف على العودة إلى الأحساء..

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×