طريق الحجّ لم يكن خالياً من آكلي لحوم البشر…! قصة طريق بلا ماء ولا شجر.. وحكاية بدو هجموا على "لحم خامّ"
ذاكرة الشاعر العوامي تستعيد ما حدث في حج سنة 1366
يواصل الشاعر العوامي سرد قصة حجه الأول، متوقفاً عند تفاصيل الطريق الطويل. ويستطرد، في هذه الحلقة، في قصصٍ قديمة، كان فيها الطريق القاحل في أغلبه؛ فرصاً سانحة لقطّاع الطرق والسُّرَّاق، والذين حوّل الجوع بعضهم إلى آكلي لحوم بشر..!
لا مكان للخيال هنا، بل هو سردٌ منقول عمّن عاشوا هذا الواقع المخيف لأجيال متعاقبة.
ذكريات حاج صغير
عدنان السيد محمد العوامي
في الصَّمَّان والدَّهناء
غادَرَت القافلةُ الصغيرة عينَ نجم صبيحة اليوم الثالث، والصبحُ أحدُ أوقات السير المأثورة لأولئك السوَّاقين المرَدَة، ومثله العصر والشطر الأول من الليل.
سمَّيتهم مردةً؛ لأنهم، رغم انعدام أيِّ رسم أو معلم لمسار الطريق، فهو إما رمالٌ وعْساء، أو سهول جرداء، أو حُزون وروابٍ وتلال، ونِباك، ومع ذلك فهم إليه أهدى من القطا، ومن اليد للفم، أو من (دعيميص الرمل) (1) كما يقول المثل، حتى إنهم لا يحطُّون إلَّا عند بلدة أو بئر ماء.
والحديث عن الماء، بعد مغادرة الأحساء، ليس ذا شجون وحسب، بل هو الأشجانٍ كلها؛ فالآبار التي مررنا بها آبارٌ عميقة، بعيدة الغور، لكنها ضئيلة المياه، يستخرج الماء منها بالسانية، وأداة جرِّ الدلاء إما جمل أو حمار، وحبال الدلاء طويلة، تمتد لمسافة طويلة فوق الأرض حين استخراج الماء من البئر، وحين إعادتها للبئر ثانية تكون مبللة، فيعود معها ما عَلِق بها من روث البهائم، وأكدارها، وبسب ذلك يتلوَّث الماء، ويتشبَّع بروائح العفن والنتن.
ومع أنهم يُغلُون الماء ويُصفُّونه بما توافر لهم من خِرَق قبل شربه، إلا أنَّ ذلك لا يجدي فتيلًا، وعلى شاربه أن يُغلق أنفه بيده أثناء الشرب تخفيفًا لوخم الرائحة.
بلا ماء
لا يتذكَّر الحاج الصغير أنهم مرُّوا بقرية أو بلدة قبل (رماح)، لكنه ما زال يذكر مشهد العرائش من الحجارة يستظل تحتها بشر في أسمال رثَّة لا يدري إن كانوا رعاة، أو أنهم سكانُ تلك العرائش.
المكان المأهول الذي باتت القافلة فيه بعد الأحساء هو غيضة (المزيرع)، وكان بها بعض الرعاة، ومنها اشترت عزبتهم (2) خروفًا سمينًا بثلاثة ريالات، ينطح بعضها بعضًا. ذبحوه وطبخوه صبيحة ذلك اليوم قبل أن قُوِّضت الخيام، وسارت القافلة متجهةً غربًا نحو بلدة (رُماح)، فوصلتها عند الظهر، وما أن أطفئ محركا السيارتين حتى تحلَّق حولها جمعٌ من أهل البلدة، وبعد لأي نجح الحجاج في إبعادهم، ونصبوا الخيام، وبعد أداء الصلاة، رنت أصداء الصواني مبشِّرة بوجبة دسمة من لحم الخروف الهرفي اللذيذ، لكنهم تفاجأوا بأنَّ اللحم كان خامًّا(3)، فنفضوا أيديَهم منه، وقاموا.
حمل اثنان من العزبة الصينية إلى أولئك المتحلقين حول الخيام، وطرحوها أمامهم، وسرعان ما ازدحمت عليها الصفوف، واصطفقت الكفوف، واحتدم العراك، وياله من عراك! فكان الرجل الذي يتمكن من الإفلات ببعض الرز في طرف أسماله، يتبعه جمعٌ فيطيح به، وهكذا أصبح المشهد عبارة عن كتل بشرية متصارعة، وما انجلت المعركةُ إلا وقد عجنت الصينية عجنًا، فتركت مكانها مغروزة في الرمال.
حكم عبدالعزيز
تسألني كيف لم يجرؤ أحد من هؤلاء الجائعين على التعرض للقافلة، أو الاعتداء عليها بالسلب أو النهب بدل العراك فيما بينهم؟ وأجيبك، بأن ذلك سيكون حتميًّا لو كان العهد قبل عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله).
ولكي تتحقق من صورة الوضع الذي كان عليه وسط الجزيرة آنذاك؛ أعرض لك صورة من صور القحط دوَّنها الصديق الكريم، الأستاذ محمد بن عبد الرزَّاق القعشمي (أبو يعرب)، من أهالي الزِّلفي، في كتابه (بدايات وما قيل عنها)، روايةً عن جدته (رحمها الله) أن أباها – قبل أكثرَ من قرن – ذهب “للبحث عن علف للماشية، وما أن وصل إلى المكان؛ إلا وتقافز مجموعة من قُطَّاع الطرق (الحنشل)، من بين الشجيرات … فأمسكوا به … وخلعوا عنه ثوبه، وعلَّقوا قِرَبَ الماء على كتفيه، وبدأوا يضربونه بالعصا ليسير أمامهم من الصباح الباكر إلى قرب العشاء… فيقول: إنهم توقَّفوا … وربطوه وتركوه لدى أحدهم، وذهبوا لجمع الحطب بالقمرا تمهيدًا لشويه وأكله، وأبقوا لديه أحدَهم لحراسته” (4).
ويكمل أبو يعرب الحكاية بأنه إزاء ضراعات جدَّه، واستعطافاته رقَّ قلبُ حارسه لحاله، فغامر بتخليصه، معرضًا نفسه للخطر في حكاية مفصلة يكفينا منها مورد الشاهد.
امرأة من آل “الشمّاغ” ببلدة الشريعة؛ أدّت دوراً تفوّق على أدوار الرجال
البويب
غادرت القافلة (رماح) عصرًا، إلى الرياض، وكان مسارُها باتجاه الجنوب الغربي، فوصلت عقبة (البُويب) قبل الغروب، والبويب هضبة ومضيق مخيف لم يمَّح مشهدُه من ذاكرة الحاج الصغير، فقد أنزِل جميع من كان في السيارتين، وأمروا بالمشي بصعود الهضبة وعبور المضيق إلى نهايته، لكي يوقفوا السيارات القادمة من الطرف الآخر، في حال قدوم سيارات، لكيلا تنحشر السيارات داخل المضيق، وإلا كان إخراجها من رابع المستحيلات, ثم رفعت كل الأحمال التي على جوانب السيارتين، وكُدِّست في جوفهيما، قبل أن تشرعا في تسلُّق العقبةِ واجتيازِ المضيق.
صورة نادرة
الصورة النادرة التي لا يحسن إغفالها هي لامرأة كريمة من آل الشمَّاع نسيت اسمها، وهي زوجة الحاج أحمد المشهور بـ(الدابشة) من أهل بلدة الشريعة، هذه المرأة امتازت عن بقية نساء الحملة بشجاعة وجرأة نادرتين، فكانت دائمًا أوَّل المبادرين للنزول من السيارة، ثم تأخذ حبلاً أو قِربة، وتدفع أمامها أوَّل القادمين لاستقبال القافلة من سكان البلدة ليدلها على البئر لملء القربة، أو على أجمة الأثل لتحضر الحطب أو الماء قبل أي أحد من الرجال.
———–
(1) دعيميص الرمل: من عبد القيس، شخصية أحسبها خرافية، يضرب به المثل في الدلالة. يقولون إنه يستاف الرمل، فيعرف الطريق، وأنه لم يدخل أرض وبار غيره، غلبه رجل من مرَّة، أخباره مبثوثة في كتب الأدب.
(2) العزبة، في اصطلاح أهل القطيف: مجموعة تشترك في السكن أوالأكل، أو فيهما معًا.
(3) خمَّ اللحم: نتن. وتُستخدم الكلمة، أيضاً، للطعام المطبوخ إذا فسد عموماً.
(4) بدايات وما قيل عنها، محمد عبد الرزاق القشعمي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 2010م، ص: 35.
الحج قديما قصص تأبى أن تنتهي … إحدى حماتي ضاعت أثناء رحلة الحج و لم يتم إيجادها حتى يومنا هذا .رحم الله القدماء