هادي رسول ونداء على حافة الأبدية
محمد الخباز
ربما لا يفصل بين الحي الذي وُلِدتُ فيه، وهو (حي المدارس) بالقطيف، والحي الذي ولد فيه الصديق العزيز هادي (حي الوسادة) الذي هو مسرح هذا الكتاب الفاتن سوى حيٍّ واحد هو (حي المدني)، ولا يفصل بين ولادتينا سوى سنوات قلائل، لذلك أحسستُ أن هذا الكتاب وكأني أنا الذي أكتبه. وقليلة هي الكتب التي تتمنى بعد الانتهاء منها أن تكون أنت الذي كتبتها، ومنها هذا الكتاب.
ما حدث أنني نُزعتُ من حي المدارس مبكرًا جدًا، قبل أن أدخل المدرسة، إضافةً إلى أن ملامح القرية قد نُزعت من هذا الحي بشكل أكبر من حي الوسادة قبل أن أولد، فليس في ذاكرتي من ملامح القرية شيء كثير، وهذا ما يجعلني أستمع لمن يتكلم عن حياة ذلك المكان باهتمام بالغ، كأني أريد أن أركِّب باقي أجزاء صورته في ذهني، الصورة التي أحسد عليها من عاش فيها عيشة واقعية لا خيالية مثلي. وهذا ما جعلني وأنا أقرأ هذا الكتاب وكأني أصغي لمن يقص علي حياتي التي لم أعشها، وقد قام هذا الكتاب بالمهمة بشكل متقن وكأنه يجس نبض جسد المكان بسماعته الشعرية.
لا أعرف كيف سيتلقى هذا الكتاب من هم خارج هذه البقعة المكانية، ولم أشغل نفسي بالتفكير في ذلك أثناء القراءة، لكن ما هو مؤكد بالنسبة لي أن الكتاب استطاع ببراعةٍ أن يدخل من هذا المكان الخاص جدًا ويخرجَ إلى المشترك الإنساني العام، بعبارة أخرى استطاع من خلال كتابته عن علاقته بهذا المكان أن يعالج إشكالية علاقة الإنسان بذاكرته المكانية وإشكالية الذاكرة والتذكر وإشكالية المكان وطقوسه وإشكالية زحف التمدن لتغيير ملامح القرية وإشكالية الموت وغيرها، وهي إشكاليات إنسانية لا شك أنها تهم أي قارئ. أي أن الكتاب نجح في ألا يتقوقع في خصوصيته، وهذا أمرٌ مهم جدًا لأي كتاب يتكلم عما هو خاص بالنسبة له، لكنه من خلال معالجته لهذا الخاص يدخل فيما هو عام لكي يُشرك المتلقي في هذه المعالجة ويجعلها تثير وعيه وتستحث شهيته للمواصلة في القراءة.
أما بالنسبة لي، فكوني ابن هذا المكان فكان اهتمامي منصبا على الاستماع لهذا السرد الشيق لسيرته. وربما هذا ما جعلني لا أقف كثيرا عند الفواصل الشعرية التي تتخلل هذا السرد، والتي ربما لا تكونُ فواصلاً وإنما متممات لبعدٍ آخر من سرد السيرة، لكني أحسستُ أحيانا بابتعاد (بعض) هذه الفواصل عن الاتصال بخيط السرد ابتعادًا واضحًا. كما أحسستُ باتصال بعضها اتصالاً واضحاً أيضاً. لكنها بالتأكيد تستحق الوقوف النقدي عليها لاستنشاق جمالياتها بشكلٍ منفصل أو متصل.
ولكوني ابن هذا المكان أيضًا، وقد استمعتُ لسيرته من مصادر مختلفة وبأشكال مختلفة، فقد افتقدتُ ملامحَ عديدة لهذا المكان لم ترد في هذه السيرة، لكن ذاكرة الكتاب من حقها انتخاب ما تشاء وأن تترك ما تشاء وفق رؤيتها ومشيئتها، وليس من حقنا أن نملي عليها رغباتنا الطفولية، كما أن من رأى ليس كمن سمعَ، إضافة إلى أن الكتاب ليس كتاب تاريخٍ ليتقصى جميع التفاصيل.
ولأن حي الوسادة ليس قرية بالمعنى التام، لن يجد القروي التام في هذا الكتاب سيرة مكتملة للنخيل وللعيون أو للبحر، ولأن حي الوسادة من جهة أخرى ليس مدينة بالمعنى التام أيضًا فلن يجد المدني في هذا الكتاب أثرا للصراع بين قيم المدينة وقيم القرية وأثرا لتمردٍ فكري أو خروجٍ عن نسق اجتماعي محافظ، فالحي يمشي في موكب جمعي، لذلك هو يحتفي بالطرماح الذي يحدو وتسير خلفه القافلة.
الأمر البارع الذي أعتقد أن الكتاب نجح فيه أيضا هو كيف أن ذاكرته استطاعت أن تُبينَ كيف أن المكان ليس مكانًا فقط بل هو زمانٌ أيضاً، في اندماجٍ خفي فككه الكتاب بوعي معرفي قادرٍ على أن يقف على ما تفعله الذاكرة بالمكان والزمان وما يفعلانه فيها، وما تفعله هي في نفسها وهي تتذكر، وما تفعله في الصورة التي تتذكرها، فللذاكرة عملٌ معقد ومركب ليس بمقدور أي أحد أن يفككه وهو يتذكر.
وإذا تجاوزنا أن الذاكرة قد تكون أمينة أحيانا، وأنها قد تكون خداعة أحيانا أخرى، ولها حيلٌ وألاعيبٌ وهو الأمر الذي لم يقف عليه الكتاب، فإننا يمكن أن نقول عن الذاكرة أنها من الممكن أن تكون حزينة أو فرحةٌ، وذاكرة الكتاب كانت ذاكرة حزينة، وإن كان الفرح يتسلل لها أحياناً، لكن أجواء الفقد والرثاء والموت والحزن هي التي كانت حاضرةً بامتياز، يكفي أن ذاكرة الكتاب افتتحت السيرة بشارع (الخُلد) الذي تمر فيه جنائز القطيف بأكملها، وربما لأن حي الوسادة كان مشرفًا على هذا الشارع فإنه لا سبيل لذاكرة الكتاب أن لا تكونَ حزينة وهي التي اعتادت على مشاهدة الموت وسماع مراثيه باستمرار. ومن الطبيعي أن يقف الكتاب على الحزن ممجدًا له أحيانا ومؤسطرا له أحيانا أخرى.
أمران سأخفف منهما لو كنتُ كاتب هذه السيرة، أولاً: زرعُ مقولات الآخرينَ في جسدِ النص، مما لم يكن ملائما في بعض المواضع، وثانياً: إلباسُ المكانِ لباساً أسطورياً، وأعلم أن لهذا اللباس مبررات شعرية وجمالية، لكن هذا اللباس كان مناسبا وعلى مقاس بعض أعضاء المكان، في حين أنه كان فضفاضاً على أعضاء أخرى. فأسطرةُ المكان لا شك أنها ترفع من منسوب شعرية السردِ وجماليته، لكن جمالية الواقع ببساطته في بعض الأحيان قد تفوق جماليته حين نُلبسه ثوبًا أسطوريًا ليس بمقاسه. وفِعلُ الإلباسِ هذا واضح من العنوان الذي كُتب على غلاف الكتاب (نداء على حافة الأبدية)، والذي صادف أنه صورة لأخي وصديقي المبدع محمد الخراري.