[1] مستقبل القانون وتحدياته في المملكة العربية السعودية

الدكتور سعيد بن تيسير الخنيزي*

شَهِدت المملكة العربية السعودية تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، بما في ذلك إصلاح ديني وتحديث شامل في هيكلة مؤسسات الدولة وعلاقتها بالمجتمع. وذلك وفق عقد اجتماعي جديد حسب ما جاء في رؤية ٢٠٣٠ وبرنامج التحول الوطني.

حَتَمَت تلك التحولات بطبيعتها من تأهيل المنظومة القانونية الفكرية بتركيبتها القضائية على نحو يصب في مصلحة الدولة والمجتمع. فالتنمية المستدامة للدولة المدنية الحديثة تحتاج في ركيزتها الى التقنين والتطبيق المُمَنْهَج — أي بصياغة القوانين الوضعية وتفعيلها على نحو إجرائي سليم — وذلك ضمن كافة مجالات القانون المتعددة.

وعلى الرغم من هنالك تحول ملحوظ في عملية إستخدام القانون كأداة تفعيل وتنظيم، إلا أن القانون بطبيعته المُرَكبة، ضمن المستوى الإداري والإجرائي والتنفيذي، يحتاج إلى تراكم وقتي طويل ووعي ثقافي ينطلق من مؤسسات الدولة والمجتمع. فالقانون من حيث ذاته مرتبط بكل مستويات الدولة المدنية الحديثة وهو المُحَرِك الأساسي في التفاعلات بين أجهزة الدولة، والقطاع الخاص، والمجتمع كَكُل.

لذلك، أقتضى الحال في إعادة النظر في المشكلات القانونية التي تواجه الهيكل القضائي والعمل على توظيف معايير قياسية موحدة بين المحاكم من حيث الماهية والكيفية في تفسير المبادىء القانونية.

فكما يبدو للمهتم في طبيعة التحديات القانونية التي تواجه المملكة العربية السعودية، أن القرارات القضائية تعاني في كثير من الاحيان من نقص في دقة التقدير العلمي والمنطقي، كما إنها في احيان كثيرة اخرى تحيطها مساحة واسعة من الغموض والعشوائية.

أهمية الإرث القانوني (Precedent System)

هنالك حاجة كبيرة في العمل على إنشاء مخزون قضائي (Precedent System) متطور من حيث تركيبته الهيكلية والتنظيمية وعلى نحو يتناسب مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تخوضها المملكة.

أهمية ذلك المخزون سوف تساعد في حفظ وتأطير القرارات القضائية السابقة واستخدامها كمصدر أساسي لحل النزاعات القضائية المستقبلية، وإثراء القانون السعودي بأمثلة وسيناريوهات حية تحاكي الواقع وتستخدمه في صياغة القوانين الوضعية. هذا من بابه سيعمل، وعلى النحو التدريجي، على توحيد طريقة التعامل القياسي مع القضايا وإعطاء الجهاز القضائي طابع من الثقة والشفافية ضمن مختلف المحاكم القضائية والأنظمة التحكيمية.

فلو أخذنا القانون التجاري، على سبيل المثال، فذلك الإرث القضائي سيعمل أولاً على تأطير القضايا التجارية بناءاً على الحقل (مثال: قضايا الاندماج والاكتساب للشركات أو Mergers and Acquisitions). ذلك التصنيف الأولي سيجمع قالب كبير من المبادىء القانونية لقانون الاندماج والاكتساب ولكن ضمن مزيج ثري من القضايا المختلفة وبشكل مباشر وتفاعلي. تلك المبادىء القانونية إذا اجتمعت مع سياقات الواقع المتغيرة في قالب واحد ستنشأ من خلالها معايير واختبارات موحدة للقضايا المستقبلية، مما سيجعل التعامل مع القضايا المستقبلية هادف الى حد كبير وقابل للتنبؤ من قِبَل القضاة وممارسي المهنة.

فمن خلال استقصائِي لطبيعة العقود المالية للشركات العالمية التي تجري في المملكة، وجدت أن الكثير من الشركات الأجنبية تحبذ التعامل مع المحاكم الخارجية — من خلال إضافة بند أختيار القانون أو كما يعرف بـ (Choice of Law) — في حال نشوء نزاع بينها وبين القطاعات المحلية الاخرى؛ كالرجوع للمحاكم البريطانية، مثلا، بدلاً من حل النزاع ضمن الجهاز القضائي السعودي.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا المستثمرون الأجانب يريدون حل نزاعاتهم خارج الدولة؟ هل لإن الجهاز القضائي السعودي يفتقد إلى الإجراء المُمَنهج في التعامل مع القوانين الوضعية الكتابية؟

صحيح إن القوانين الوضعية الكتابية موجودة ومتوفرة لدى أجهزة القضاء المختلفة، ولكن تلك القوانين ذاتها ينقصها التفعيل الحيوي والمقاربة مع سياقات الواقع المتغيرة والمختلفة.

فالمبادىء القانونية من حيث طبيعتها هِيَ في مجملها مبادىء مختزلة توظيفية لا يستطيع المرء التعامل معها ضمن معادلات الواقع، بسلبياتها وايجابياتها، واتساعها وضيقها، إلا من خلال التفاعل الحيوي ضمن تعقيدات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة المدنية الحديثة؛ حينها فقط تبرز تجليات الترابط أو التناقض بين المبدأ من جهة وبين تعقيدات العالم الواقعي من جهة أخرى.

أذكر إني ذات مرة، على سبيل المثال، أخذني الحديث مع محامي بريطاني مقيم في السعودية. يقول هذا المحامي، والذي مارس مهنة المحاماة في السعودية لمدة تقارب الخمسة عشر سنة، أنه كلما أقترح مسألة معينة تخص الجهاز القضائي السعودي ضمن مقر عمله أجاب المحامين السعوديين الآخرين بأن السعودية تتخذ الشريعة سبيلا لها في حل النزاعات القضائية. يقول هذا المحامي إنه على الرغم من سماع هذا الجواب مرارا وتكرارا إلا إنه وإلى الان لا يستوعب فعلياً الماهيات و الكيفيات لتطبيق الشريعة والتي في كثير من الأحيان تنقصها الإجراءات العملية الواضحة والسليمة.

ما يميز دراسات القانون التطبيقية، على سبيل المثال، هو في أهمية الربط والدمج بين التصور والممارسة، وبين الصنف النظري والصنف التطبيقي والتفاعلي. بالتأكيد، لابُد للمحامي أن يَتّقن ويستذكر مَجْمَع هائل من النظريات والمعايير الاختبارية في القياس والتفسير. ولكن هذا كله لن يعني شيئاً في حال فشل المحامي في إتخاذ الخطوات الأهم والتي تصب في مجملها من تمكنه الفني من تطبيق المبدأ القانوني ومقاربته لسيناريوهات الواقع المختلفة. وأيضاً دراسة الآثار والنتائج في توظيف مبدأ قانوني معين وتفضيله على أخر.

توصيات

أرى أن العمل على خلق إرث قضائي ضمن الجهاز القضائي السعودي سيغني المنظومة القانونية الفكرية بتركيبتها القضائية بأمثلة وسيناريوهات حية، تحاكي الواقع وتستشيره باستمرار، وذلك للأسباب التالية:

أولاً، سيتم تخزين كمية غنية من المعايير التجريبية نسبةً للقضايا الوضعية المختلفة.

ثانياً، سيتم نضوج تأويل وتفسير تلك المبادىء القانونية، بتشعباتها ومكوناتها المختلفة، على نحو أعمق وأكثر كفاءةً وعدلاً.

ثالثاً، سيتم خلق مراقبة ذاتية بين قضاة المحاكم المختلفة في إتخاذ ذلك المخزون القضائي كمصدر رئيسي لحل القضايا المتشابهة أوالمتماثلة أو المتجانسة.

رابعاً، سيتم الحد من العشوائية في قرارات المحاكم وإفساح مجال أوسع للدراسات المقارنة والمنهج المقارن في مقاربة الكيفيات التطبيقية بين الماضي والحاضر والمستقبل.

خامساً، سيتم منح ممارسي المحاماة الطابع التنبؤي في رسم خططهم التكتيكية والاستراتيجية، بالاستباق، ولو جزئيا، للنتائج النهائية للقضايا.

سادساً، سيتم خلق تنافس مثمر ضمن ممارسي المحاماة قائم من حيث ذاته على الصحة الاستدلالية والمنهج العلمي في التمثيل أمام مختلف المحاكم القضائية أو في حين صياغة المذكرات القانونية.

لذلك، وفي الختام، أرى إن تلك المقترحات بمجملها ستخدم رؤية ٢٠٣٠ في كافة مجالات القانون المتعددة وبشكل يصب في مصلحة الدولة والمجتمع.

* باحث في القانون، يحمل الدكتوراه من جامعة سيركيوز الأمريكية، ورخصة ممارسة القانون في العاصمة الأمريكية.

تعليق واحد

  1. مقال بحثي عميق ، يعكس ما يمتلكه الكاتب من معرفة عصرية للواقع القانوني للبلد..

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com