بوصلة ذات اتجاه واحد: محمد آل هويدي

محمد الشافعي

نشرت صحيفة صبرة سلسلة مقالات للصديق محمد آل هويدي تحت عنوان “بوصلة ذات أربع اتجاهات” واستوقفتني  المقالة المعنونة بـ “الملتزمون المحافظون”، والمقالة في مجملها انتقاد أولئك الذين -كما يرى الهويدي- :“يدوسون فوق احتياجاتهم؛ وبعض الأحيان للأسف، يدفع أهاليهم الثمن. تراهم يتحاملون على أنفسهم بحيث يأتون من أعمالهم منهكين، وما يلبثون أن ينخرطوا في الأعمال الجماعية. وستراهم يتواجدون في الجمعيات الخيرية والنوادي. هؤلاء بارعون في تلبية الاحتياجات الخارجية، ولكنهم مقصرون في حق أنفسهم”.

يكرر حكمه على “هذا النوع” الذي سبق وأن وضعه في خانة الملتزمين المحافظين حيث يرى أن “هذا النوع من الناس يكوِّن الشريحة العظمى من البشر في أكثر المجتمعات. ويبقى هؤلاء الناس الضحية لتلبية احتياجات الآخرين، خصوصا الاتكاليين منهم. هؤلاء مُؤْثِرُون ولا يمكن لهم أن يكونوا أنانيين”.

الهويدي ومن خلال هذه المقالة الناقدة يرى ضرورة احتواء هؤلاء، ونصحهم وإرشادهم، وحجته الرئيسة هي إهمال أنفسهم وأهلهم. ولعله يسمح لي في هذا المقال بنصحه وإرشاده أيضاً، في محاولة مني لوضع دعوته هذه في إطار أكبر من مجرد اعتباره لكلامه مجرد نصيحة ومحاولة للاهتمام بفئة معينة.

فليس بخافٍ أن المقالة دعوة للفردانية بصورتها التي تنامت مع توسع المجتمعات الصناعية والنزوح الجماعي من الأرياف التي تتمتع بروابط تقليدية وعلاقات تكافلية مستقرة، إلى المدن التي بدأت تأخذ وضعية اجتماع بشري جديد تتجاور فيه كتل سكانية غير متجانسة يجمعها هدف الانخراط في الاقتصاد الصناعي في المدينة. كان في تلك المجتمعات ما يبرر نزع الفرد من سياقه وامتداده وتحويله إلى فرد محصور الاهتمام بعائلته الصغيرة التي ستشكل مستقبل القوة العاملة في ذلك المجتمع الصناعي.

في الغالب، يربط المتحمسون للتقدم على النمط الغربي، بين هذا التقدم وهذا النمط من الفردانية وتقليص الاهتمام بالصالح العام على النحو الذي يروج له الهويدي. ولذلك نرى أن الهويدي يركز على جانب مضيء ويتعلل بأولوية الاهتمام بالعائلة النووية وتطوير الذات على الانخراط في الخدمة العامة، ويهمل ما أنتجته مجتمعات “عدم الاكتراث” التي فككت شبكات أمان اجتماعي كانت توفرها الروابط التقليدية والتضامن الذي يؤكد عليه الفاعلون في تحقيق الصالح العام. بل أن الفردانية تتأسس على مقولة كلاسيكية مفادها أن الصالح العام يتحقق من خلال سعي الأفراد نحو مصالحهم الخاصة. وهنا، يصمت “الفردانيون” عن الأفراد الذين يسيرون في شوارع وول ستريت وهم يرون المشردين يفترشون الشوارع وتحت الكباري التي تسير فوقها السيارات الفارهة. الصالح العام هنا تحقق -في نظرهم- لمن اجتهد واهتم بتطوير ذاته واهتم بعائلته، ولا يرى هؤلاء بأنهم يتحملون مسؤولية نظام اجتماعي عادل وتكافلي، ولا يرون مسؤولية لهم في تحسين السياق العام الذي يتفاعلون فيه مع الآخرين، إنهم ببساطة ذرات تتجاور دون تفاعل مع ذرات أخرى.

إلحاح الهويدي على تحويل الجميع إلى ذرات يدفعه لينحو منحى أكثر تطرفاً في الدعوة للفردانية حين يرى إشكالية في كون “النوع” الذي ينتقده لا يمكن أن يكونوا أنانيين. وهذا يذكرني بآين راند وكتابها “فضيلة الأنانية” الذي يلقى رواجاً في الآونة الأخيرة على الرغم من أنه صدر في منتصف الستينات. مرة أخرى قد نجادل في هامش التفاوض بين الفرد والجماعة، ولكن تحديد الإشكالية بافتقار من ينتقدهم الكاتب للأنانية في مقال مشحون بآيات قرآنية أمر لا يستقيم. من حقك يا أستاذ هويدي أن تتبنى الأنانية كفضيلة، أن ترى الفردانية هي المقدمة الضرورية للإبداع، ولكن الغريب أن تنتقي آيات لتسويغ منطقك من قرآن يقوم من مبتدئه إلى منتهاه على التأسيس لأخلاق ترفع من قدر الإيثار وتحذر من الأنانية، وأخلاق تؤسس لبناء جماعة والبعد عن الفردانية والسلبية حتى أصبحت معظم العبادات جماعية وطقوس الدين كلها تقريباً تمارس لكي يبنى الفرد في سياق جماعة تتجاوزه.

نكاد نجزم أن كافة الأديان تقوم اشتغالاتها التذويتية على ضرورة بناء جماعة ينبسط فيها الدين، ولذلك لا يتحول الخطاب القرآني نحو الفرد إلا في مقام تحميله المسؤولية وتذكيره بثقلها وبالحساب وأن مصيره الأخروي مرتبط بخياره الفردي، وما عدا ذلك سترى التعاليم الدينية تدور حول الانشغال بالآخرين. ولست هنا بصدد الانتصار للقيم الدينية، فالأديان جميعها تشتغل على جماعة باعتبارها الأفق الذي يمكن أن تتمثل خلاله بقدر ما أحاول بيان أن من يتبنى الفردانية فله أن يسوغها فلسفياً دون الحاجة لتطويع النص الديني الذي لن يسعفه من أجل الانتصار لرأيه.

ختاماً، فإن هذه الدعوة على ما يبدو لا تعدو كونها دعوة كسولة لمحاكاة مجتمعات أخرى دون اعتبار للسياقات التي دفعت لذلك النمط، ودون اعتبار لمآلات تلك التجربة، ودون اعتبار لما يمكن توظيفه من سياقاتنا الخاصة لتوليد نمط حديث لاجتماعنا البشري الخاص بنا. وتحمل الدعوة افتراضات ضمنية بأن الفرد تكمن مصلحته في اهتمام والديه فقط به، وليس في كون والديه والجميع يشتغلون في توفير إطار تكافلي حاضن. ولعل هذا يكشف الموقع الذي يتموضع فيه الكاتب اجتماعياً، حيث يفترض أن كل من في المجتمع يمتلك عائلة مقتدرة وقادرة على التفكير في مستقبلها، وليست منشغلة بحاضرها التي تعوّل فيه على الشبكة الاجتماعية من حولها لتأهيلها، ولذلك يأتي وصفه القاسي لهم بالاتكاليين، وهو ما يتماهى مع دعاة الفردانية المتطرفة التي تلوم ضعفاء المجتمع على فقرهم وعوزهم. وتتواصل نظرة الكاتب المستنكرة حين يعيّر في مقاله وبوضوح الفاعلين في توفير تلك الشبكة بأنهم لا يستثمرون أوقاتهم في القراءة وممارسة الرياضة وتطويرالذات، لأنه يرى أن هذه الاهتمامات أرفع من الاهتمام بالآخرين الاتكاليين.

ليس كلامي هنا دفاعاً عن نمط اجتماع تقليدي بالضرورة، ولكنه دعوة للتوقف عن استيراد نماذج على طريقة الطرود المستوردة كحزم جاهزة، والتفكير بمجتمعاتنا مع أخذ الاعتبار ما تحمله من إمكانيات وأنماط حياة وجودية محتملة، وعدم الارتهان على نموذج فردنة المجتمع وحصر الاهتمام حول الذات وفي نطاق العائلة النووية، وعدم التعويل على أن التقدم مرهون بنجاح الأفراد بالاهتمام بمصالحهم الخاصة، ونبذ المصالح العامة المشتركة التي تتحقق من خلال انخراطهم في الشأن العام والاهتمام بالآخرين.

والآن، هل يحق لي أن أقول بأن بوصلة الهويدي ذات اتجاه واحد.. نحو الغرب؟ ربما.

‫3 تعليقات

  1. وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً
    وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ

    يبدو لي أن لدى صاحب الموضوع مشكلة في الفهم !

  2. الاستاذ ابو عبد الله
    قد اتفق معك في مساله سلبيات الفردانية و كونها نتاج غربي قد يكون مناسب لهم وان المجتمعات المختلفه يجب عليها انتاج فكرا مناسب لها
    اعتقد خلطك للتدين بالفردانيه لتبرير نقدك الي ما يدعوا له الاستاذ الهويدي غير موفق
    لكن لم اجد ان النقد في الحقيقه موجه للنظريه الفردانيه نفسها
    بل الي راي الهويدي فقط فلم اجد فائده تذكر
    كنت اود ان اعرف لماذ الفردانيه لا تصلح لنا وهل هي كعلبه كوكاكولا نشتريها من البقاله ام هي مرتبطه بالراسماليه و الديموقراطيه وطرق تطبيقها خاضع الي فلسفه عميقه تعرضت الي نقد ذول تاريخ تكوينها و بعده
    كنت اتمنى ان اسمع رايك في النظريه

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com