[1 ـ 3] بداية تأسيس فرق الموسـيقى في السعودية
محمـد السـنان*
يمكن اعـتبـار عام 1952م هـو البـداية الحقيقـية لنشـأة الفـن الموسـيقي الحـديث، أي مرحـلـة ما بعـد الفنـون الشـعبية، فبعد توحيد المملكة على يد المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود، كانت هناك حاجة ماسة لإنشاء فرقة موسيقية داخل الجيش لتقوم بعزف الموسيقى الوطنية للملوك ورؤساء الدول الأخرى الذين يزورون المملكة، باعتباره بروتوكولاً رسمياً تفرضه الضرورة. كما أن المملكة بحاجة أن يكون لها موسيقاها الوطنية (الملكية) الرسمية. من أجل ذلك أوكلت مهمة تأليف موسيقى السلام الملكي لملحن مصري (عبد الرحمن الخطيب)، كما تم ابتعاث ضابط المـدفعـيـة المضادة للـدبابات (طارق عـبـدالحكـيم) ذو الخلفية الموسيقية إلى مصـر من قبـل وزير الـدفاع آنذاك سمو الأمير منصور بن عـبد العـزيز ليتلقى تعليم الموسيقى ومن ثم يعـود ليشكل ويقـود موسـيقى الجيش. وكان طارق عـبـدالحكيم قبل ذلك بعام واحـد، أي عام 1951م قـد لحن ونفـذ أغنيته المشهورة “يا ريم وادي ثقيف” التي انطلقت من حـنجـرة “نجاح سـلام” لتعـبر القارات ولتعـرّف المستمع في كل أرجاء العالم العـربي باسم فنان سـعودي اسمه “طارق عـبـدالحكـيم”.
وعـندما عـاد طارق عبـد الحكيم بعـد تخـرجه عام 1953 أي بعـد سـنة واحـدة من ابتعاثه، كان الأمير منصور قـد انتقل إلى رحمـة الله وخلفـه شـقيقه الأمير مشعل بن عـبد العـزيز في وزارة الدفاع. وفور عودته من القاهـرة باشـر في تكوين الفـرقة الموسـيقية العسكرية، والتي كانت تقـوم بالإضافة لتقـديم التحيـة العسـكرية (السـلام الملكي السـعـودي)، كانت تساهم في إحيـاء حـفلات موسيقية وغـنائية ترفيهية لأفـراد الجيش. وقـد أدى تأسيس نواد ترفيهية للضباط في مختلف مناطق المملكة إلى زيادة المناسبات والحفلات الغنائية التي كانت تقـوم بها الفـرقة.
وفي عام 1961 تمت إعارة طارق عـبدالحكيم للمديرية العامة للإذاعـة والصحـافـة والنشـر بهـدف تأسيس فـرقـة الإذاعـة الموسيقية وتكـوين عناصـرها والإشـراف عليها والتي كان معظم أعضائها من جاليات عربية.
وتعـتبر هـذه الفـترة هي المرحـلة المفصلية في نشأت الفـن الغـنائي والموسـيقي في المملكـة. ومع ذلك بقـي الفن الموسيقي والغنائي محظوراً خارج أسـوار المؤسسـة العسـكرية والإذاعـة، وقبـل ذلك كان هنـاك مجمـوعـات قليلـة من هـواة الموسـيقى والغـنـاء في كل من منطقـة الحجـاز والمنطقـة الشـرقيـة والوسـطى ممن كانوا يمارسون العـزف والغـنـاء خـفيـة وداخل غـرف مغلقـة ومعـزولة أو في أماكن نائيـة بعـيـداً عـن أعين الرقبـاء، خشـية أن يتم ضبطهم متلبسين بممارسة هـذه الهواية، مما يعـرضهم للتعـزير وتكسـير آلاتهم الموسـيقية، وقـد يصل التعـزير إلى إرغامهم عـلى حمـل آلاتهم فـوق رؤوسهم والطـواف بهم في الأسـواق باعتبارهم فسـقة ومارقـين.
في عام 1962م، بعد عودة المغفور له الملك سعود بن عبد العزيز من الرحلة العلاجية الى أوربا، وقد كانت محطة وصوله إلى أرض الوطن من خـلال مطار الظهران، والـذي كان المطار الـدولي الوحيــد في المملكـة آنذاك. فقد احتفلت المنطقة الشرقية بقدوم الملك من رحلته العلاجية بعد أن تكللت العملية الجراحية، التي أجـريت لعينيه، بالنجاح، وتحولت مدن المنطقة الشرقية بأكملها إلى كرنفالات لم تشهد مثلها المملكة من قبـل. فقد أضيئت شوارع وحدائق الخبر والدمام والقطيف والأحساء على مدار الساعة وكأنها مدينة لاس فيجاس الشهيرة، هذا بالإضافة إلى إلباسها حلة خضراء من سعف النخيل وبعض الأشجار التي جلبت من واحـتي القطيف والأحسـاء. ولم يقتصر الاحتفال الذي امتد لمدة ثلاثة أيام بلياليها من إنارة الشوارع والعرضات، بل إن حديقة البلدية في الخبر آنذاك والتي كانت تعتبر أكبر حديقة على مستوى المملكة، ذهبت الى أبعد من ذلك بكثير، فقد تحولت إلى خلية نحل، قصدها كل أطياف المجتمع برجالها ونسائها وأطفالها الذين جاؤوا من الأحساء والقطيف والدمام والبحـرين وذلك للالتفاف حول مركز الحفل الموسيقي الذي كان يقام بمصاحبة آلات موسيقية لأول مرة في المملكة وفي مكان عام، حيث اسـتخدمت آلات مثل العود والكمان بالإضافـة طبعـاً للطبول والدفوف والصاجات. وقد شارك في ذلك الحفل فنانون من البحرين مثل محمد زويد ومن اليمن أحمـد يوسف الزبيدي ومن السعودية الضابط والفنان جميل محمـود وفنانون آخرون لا أستطيع تذكرهم.
فقـد كان يمثل ذلك العام نقلة تاريخية في المملكة التي كانت تعتبر الموسيقى من المحرمات ويجرّم من يمارسها أو حـتى من يستمع إليها من خلال أسطوانة عـلى جهاز الجرامافون، أو من لديه آلـة عـزف كالعـود أو الكمنجـة أو غـيرها من المعـازف (كما كان يحلـو للبعض أن يسميها) فإذا بهـذا المحظـور يصبح بين ليلـة وضحـاها مباحـاً..!!!!
بعـد هـذا الحـدث التاريخي بفـترة وجـيزة، طالعتنـا مجلـة “الموعـد” اللبنانية بمفاجـأة غـير متوقعـة، ريبورتاجاً مصـوراً لفنـان سـعودي واعـد ينطلـق صـوته من لبنـان بأغـنيـة كانت جـواز عبـوره لآذان ومسامع الجمهور العـربي في كل مكان.
لقـد كانت رائعتـه (سـويعات الأصيل) التي لحنها الفنان الكبير (المغـمـور آنذاك) عـبـد اللـه محمـد. لم تكن سـويعات الأصيل هي الأغـنيـة الأولى التي غـناها طلال، ولكنها حـتماً الأغـنيـة التي عـرفـه الجمهـور بها.
لقـد كان الفـن الموسيقي والغـنائي في الحجـاز يتم إعـداده قبـل هـذه الفـترة عـلى نار هادئة، ولذلك خـرج لنا مسـتوياً يفـوح منـه عـبق الأصالـة والجمال. ومـع أنه كان غـريباً عـلى آذان متـذوقي الفـن في السـاحـل الشـرقي الـذين تربت آذانهم عـلى الأغاني المصـرية والشاميـة والعـراقيـة، إلا أنها سـرعان ما تكيفت وتذوقت هـذا اللـون الجـديد. إن للفـن الحجـازي طابعـه ونكهتـه الخاصـة التي تخـتلف عـن اللـون المصـري والخليجـي أو العـراقي، حـتى أن مقاماته تختلف إلى حـد ما عـن المقامات العـربية الدارجـة، ذلك لتأثرها بالفن اليمـني والأفـريقي والجنوب شـرق أسيوي، وهي مصادر تختلف طبيعـة فنـونها عـن الفنـون الفارسـية والعـراقيـة والمصـرية والتركيـة التي تأثرت بها منطقـة الخليج بشكل عـام. لقـد سـاعـد على انتشار الأغنيـة الحجازية عـدة عـومل كلها تظافـرت لتجعـل من الحجـاز قلعـة شامخـة من الفن الموسيقي والغنائي، ومصنعاً لنجوم الغنـاء… وهـذه العـوامل هي:
- البيئة المتحضـرة والمتفتحـة.
- وجـود أول إذاعـة في المملكـة التي أنشأت عـام 1949م والتي بدأت ببث أعمالهم، وتحيي حفلاتهم منذ عام 1962م.
- وجـود الممثليات الدبلوماسيـة فيها إلى وقت قـريب قبل أن يتم نقلها للعاصمـة الرياض.
فهـذه العـوامل الثلاثة سـاهمت بشكل كبير في جعل البيئة الحجـازية أرض خصبـة للنبت الفـني. وقـد خـرج من هـذه المنطقـة أباطرة الغنـاء والموسـيقى في الجـزيرة العـربية مثل: (طلال مـداح، محمـد عبـده، فوزي محسـون، طارق عـبـدالحكـيم، غـازي عـلي، جميـل محمـود، محمـد عـلي سـندي، سـراج عمـر، سـامي إحســان، عبادي الجـوهـر، عمـر كـدرس، مطلق مخلـد الذيابي (سمير الوادي) وغـيرهم كثير.
(يتبع في الأسبوع القادم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث ومؤلف موسيقي