الدين والفن الموسيقي والغنائي
محمـد السـنان*
قضية الغناء والموسيقى وموقف رجال الدين كانت الشغل الشاغل لكثير من الناس في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، مع ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة والتكفيرية في العالم العربي. وقد اتخذت تلك الجماعات من المساجد التي كانت تخضع لسيطرتها مكاناً لنشر أفكارها المسمومة وتعبئة رواد تلك المساجد بأفكارهم البالية، التي تحض على الجهاد والانخراط في تنظيماتهم السرية تحت ستار الدين.
هذه الحركات التي كانت منظمة تنظيماً خطيراً وتقوم بتنسيق كل أنشطتها عبر قنوات في غاية الدقة، مكنتها من بسط نفوذها وسيطرتها على الكثير من الأنشطة الاجتماعية والأكاديمية والإقتصادية، وبالتالي تمكنت من السيطرة على عقول الشباب والولوج إلى مختلف طبقات المجتمع باختلاف شرائحه وقامت بطبع كتبها وتسجيل أشرطتها، وتمكنت كذلك من الضغط على بعض الأنظمة العربية لتسخير الأجهزة الإعلامية لها مثل الإذاعة والتليفزيون.
وفي حادثة ربما كانت عابرة لكنها تركت وراءها آثاراً سلبية ما زالت تؤتي ثمارها حتى وقتنا الحالي. ففي عام 1988م قام مجموعة من طلاب جامعة القاهرة المنتمون أو المتعاطفون مع حركة الإخوان المسلمين بالاعتراض على إقامة حفلات غنائيه داخل الجامعة، وتسابقت الصحف في تهويل الواقعة. وعلى إثر ذلك ارتفع اللغط واتخذها الخطباء المرتبطون بتلك التنظيمات التكفيرية فرصة للهجوم على الفن والفنانين ووصفهم بأقذع الأوصاف، وأصدروا لهم تأشيرات الدخول لجهنم وأوصدوا في وجوههم أبواب الجنة وكأنهم وكلاء الله على عباده.
وقد كانت لتلك الحملة الموتورة المتشنجـه التي قادتها ودبرتها بعض التيارات الإسـلاميه التكـفيريـه نتائج خطيرة، حيث إن تأثيرها أمتد إلى فروع الفـن الأخرى، مثل المسرح والسينما، وكلنا يعلم كم من الفنانين والفنـانات الذين اعتزلوا الفـن وأعـلنوا “توبته”، وكأن الفن إحدى الكبائر التي يستوجب على مرتكبها التوبة وإلا خلد في نار جهنم.
وقد اعتمد هؤلاء الدعاة في أساليبهم الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، بعد أن فسروا بعض آيات القرآن الكريم وفقاً لمنظورهم الضيق والعسير، كقوله تعالى:
(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) فقد اعتبروا الغناء نوعاً من أنواع اللغو فوجب الإعراض عنه. ولكن الظاهر في الآية الكريمة بأن اللغو هو سفه القول مثل السب والشتم وغير ذلك، وبقية الآية تنطق بذلك، قال تعالى (وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهيلة) القصص 55 وهي شبيهه بالآية التي تقول ((وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) الفرقان 64.
إن أهم ما يميز ديننا الإسلامي الحنيف أنه دين اليسر وليس العسر, دين غرس الحب والجمال والمشاعـر النبيله والرقيقة في أعماق المسلم. والقرآن الكريم مليء بالآيات العظام التي تلفت الأنظار وتنبه القلوب إلى الجمال الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى في كونه من طبيعة ومن سماء تتلألأ في كبدها النجوم والأقماروغناء الطيورمن حولنا..
ولكن لنقف عند نقطة واحدة هنا ونسأل أنفسنا: ماهو تعريف الحرام في الدين، بغض النظر عما إذا كنا نتحدث عن الموسيقى أو الغناء أو غير ذلك، فما يهمنا هنا في المقام الأول هو إيجاد تعريف يتفق عليه جميع علماء المسلمين باختلاف مذاهبهم ونحلهم لكلمة “حرام”. وقد اجتمعتُ وناقشت هذه النقطة مع عدد كبير من رجال الفقه من المذاهب السنية والشيعية، وقد خرجت بحصيلة واحده مفادها أن الأصل في الأشياء الأباحه، أي (الحلال) مالم يصدر به نص صريح بتحريمها.. وكلمة نص صريح بتحريمها تعني ورود كلمة “حرام” وليس أي كلمة يمكن الاختلاف في تفسيرها بين العلماء.
وبما أن هذا هو التعريف لـ “الحرام” فإنني أتساءل من أين جاء هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم ألقاب العلماء بهذه الفتاوى التي لا تستند إلى أي أساس فقهي.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أصحاب الفكر التكفيري قد نصّبوا من أنفسهم وكلاء الله في أرضه، فهم الناطقون الرسميون والوحيدون باسم الله. وأن كل من يختلف معهم فإنه كافر.
كما أنهم اتخذوا من العنف سبيلاً لنشر تعاليمهم وأفكارهم، وأخذوا يرهبون الناس باسم الدين، ونشطوا في ذلك، واتخذوا من أسلوب الاغتيال وسيلة للتخلص من مخالفيهم في الرأي. وكلنا يعرف ماتعرض له كبار الكتاب التنويريون في مصر من اغتيال واضطهاد وتكفير، من أمثال الشهيد فرج فوده، والمرحومين نصر حامد أبو زيد وخليل عبد الكريم وأخيراً وليس آخـر السيد القمني، وغيرهم الكثير.
يقول المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “إن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع، والواقع أن نفراً من سوداوي المزاج أولعوا بالتحريم ومنهجهم في الحكم على الأشياء يخالف منهج نبي الإسلام الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه”.
رُوي عن النبي (ص) انه قال “لاتشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والأديرة رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم”. ويقول الشيخ الغزالي “أما الغناء، فكلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ومن غنى أو استمع إلى غناء شريف المعنى، طيب اللحن فلا حرج عليه، وما نحارب إلا غناءً هابط المعنى واللحن”.
وعما يردده البعض عن تحريم الغناء، قال الشيخ الغزالي:
“لم يرد حديث صحيح في تحريم الغناء –على الإطلاق- وقد احتج البعض بقوله تعالى “ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤاً أولئك لهم عذاب مهين، وإذا تتلى آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها”.
ويشير الشيخ الغزالي الى هذه الآية فيقول “إن من يشتري لهو الحديث أو جدل للأسباب المذكورة في الآية، جدير بسوء العقاب، أما من يريح أعصابه المكدوده بصوت حسن ولحن جميل فلا علاقة للآيـة به.
كما يقول ابن حزم “لو اشترى مصحفاً للإضلال فهو محرم ” فالموسيقى كالغناء. وقد ورد في السنة أن النبي (ص) قد مدح صوت أبي موسى الأشعري – وكان عذباً وقد سمعه يتغنى بالقراّن فقال له: لقد أوتيت مزماراً من مزامير داوود.
ويقول الشيخ عبد الله المشد، رئيس لجنة الفتوى في الأزهر (سابقاً) وذلك في مجلة روز اليوسف عدد 25 سبتمبر 1989م وقد سئل عن سماع الموسيقى فقال “سماع الموسيقى لم يرد نص صريح قاطع بتحريمها والموسيقى تتفق بطبيعة البشر، مادامت للترفيه والتخفيف من واجب، فهي حلال. ويؤيده في ذلك بعض من مشايخما السعوديون مثل الشيخ الجديع، والشيخ أحمد الغامدي والشيخ عادل الكلباني.
كما أن بعض علماء الطائفة الشيعية مثل المرحوم العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والمرحوم االسيد محمـد حسين فضل الله لم يجدا في الموسيقى والغناء ما يحرمهما الا إذا كانا قد اقترنا بفحش في الكلام.
ويقول السيد محمـد حسين فضل اللـه في لقـاء أجرته معـه صحيفة “إيلاف” بتاريخ 22 يونيه 2006م، وهو أحـد المراجع للشـيعه الإماميـه “أنّ الأغاني، لا تدخل في باب المحرّمات، إذا ما لامست القيم الإنسانيّة والفكرية العميقة في مضمونها، وترافقت مع موسيقى راقية، فالغناء حسب معناه لغوياً هو ترجيع الصّوت وتمديده، وكل حالة من الحالات التي يردد فيها الصوت من خلال تمديده وترجيعه، تسمّى غناءً.
ويتابع قائلاً “مسألة الغناء تنطلق من فكرة، وهي طريقة أداء الصّوت، أو طريقة تحريك الكلمة، وهذه تختلف حسب اختلاف الصوت، والصوت الملحن أو المنغّم، يعطي للكلمة في نفس السامع التأثير العميق الذي قد يؤدّي إلى بعض النّتائج على مستوى الإحساس الشّعوري في هذا المجال،. فإذا كان التغنّي بالوطن وبالطّبيعة وبالمعاني السّامية ليس محرّماً، فلماذا التغنّي للحب يصبح محرّماً، علماً أنّ الحب من أسما المعاني الإنسانية؟”.
لاشك أنه قد مرت فترة من الزمــان عنـد انتهـاء الخلافه الراشدة وقيام الدولة الأموية وخصوصاً في عهد يزيد بن معاويه، أن بدأ التهاون في الأمور الدينيه والالتجاء إلى اللهو والرخاء، و قد برزت الملاهي والألحان، وكثرت المغنيات في هذه الأماكن، وأصبح يقرن الغناء الى الخمر ولعب الميسر وتعاطي الفجور، مما أدى إلى أن تصبح سـمعـة المغنيات فـي تلك الحان شائنة.
وقد ظهرت تعابير مثل (مغنية و صـناجـة وزمارة) مرادفات الى العاهـرة والزانية. إلا أن الفن ـ رغم هذه الصفـات الكريهة ـ قد استطاع أن ينفض عن نفسه مقداراً كبيراً من اللعــان الذي رشــق بـه، والفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى الى اهتمام الطبقات العليا به وانقضاء خلافة يزيد بموته.
فإذا كان الغناء والموسيقى حراماً عند هؤلاء الكهنة، ومتعاطوها يوصفون بالفسق والانحلال والخروج عن الدين وإتيان المنكر إذاً فتاريخنا الإسلامي يحتاج الى إعادة النظر فيه، وإعادة كتابته بحيث يوصف خلفاء بني أميه وخلفاء بني العباس بأنهم زنادقه وفاسـقون، وتلغى عنهم صفة الخلافه التي تروج لها كتب التاريخ، التي تدرس لأبنائنا في المدارس، لأن هؤلاء الخلفاء قد قاموا برعاية العلوم والآداب والفنون الموسـيقيه والغنائيه بمقدار أكبر من رعايتهم للأمور الدينية. لكننا لا نجد في كتبنا التاريخية إلا تمجيداً لهؤلاء الخلفاء لإنجازاتهم في نشر الإسلام، والتغاضي عن الكثير من الإنجازات الأخرى التي شكلت جوهر الحضارة الإسلامية لأنها تدخل في باب الحرام بالنسبة لفقههم المتخلف.
* كاتب وباحث ومؤلف موسيقي
🔹روي عن الإمام الصّادق عليه السّلام: ”بيت الغناء لا تُؤْمَنُ فيه الفجيعة، ولا يدخله الملك، ولا تُسْتَجَابُ فيه الدّعوة“
🔹وروي عن الإمام الصّادق عليه السّلام: ”استماع اللهو والغناء يُنْبِتُ في القلب النفاقَ كما يُنْبِتُ الماءُ الزّرعَ“
🔹في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ، عن أبي عبد الله الصّادق عليه السّلام قال: ”لهو الحديث هو الغناء“،
🔹. في تفسير قوله تعالى ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا… وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾
عن الإمام الصّادق عليه السّلام قال: ”الذين لا يشهدون الزور لا يحضرون مجالسَ اللهو والغناء“
🔹 في تفسير قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
قال الإمام الصادق عليه السّلام: ”قول الزور هو الغناء“
موضوع جميل جداً وقيم و وافي و يحتوي على كم كبير من الثقافة والمعلومات المهمة..
شكراً استاذ محمد على موضوعك الجميل..
الشيخ محمد السنان بارك الله فيك منك نأخذ معالم ديننا وموسيقتنا وأغانينا