سلمان العجمي.. وحيداً على دكة الانتظار
أثير السادة
ينظر إلى الشارع من زاويته وهو يصغي لصوت المذياع الذي للتو قد ضبط مولفه على ترددات يعرفها كثيرا أهل هذا المكان، جاء الوقت لأستوقفه بالسلام والسؤال عن الحال، بعد أيام من الترداد على ذات الشارع والنظر إليه من نافذة السيارة..
كانت الشمس تترك أثرها الذهبي في المكان، تجعل من فكرة التصوير ذاتها مغامرة ضوئية جميلة، أحيانا تأخذني غواية الشمس إلى سلوك طرقات بديلة للوصول إلى البيت، طمعا في شيء يعانق الضوء قبل أن يغرب كل شيء عن وجه المكان.
سيبدو الأمر اعتياديا كباقي المغامرات التي حملتني للاقتراب من عالم كبار السن، بعض التوجس يعقبه تردد فقبول بتحفظ لفكرة التصوير، هكذا هي سيرة الصورة التي لا تكف عن اقتحام فضاء الناس، هذه المرة انتهت الزيارة بلا صورة، فقط كانت فرصة لرسم صورة عنا في ذاكرة الرجل، رسوم الوجه وسيرة العائلة ستحضر بكثير من الطراوة في المرة القادمة ويصبح أمر التقاط صورة فرصة سانحة..
حدث ذلك بالفعل، بعد يومين من اللقاء الأول، ذاكرته الآن مثقلة بلقاء متودد وبه الكثير من الثقة، هنا بات المذياع الذي يوصله بأخبار العالم رفيقا له في الصورة، يعيد ترتيب هندامه وبالمثل دوزنه مولف المذياع ليتجاوز تلك الإذاعة التي يريد لها الستر، يختصر المسافة بين الفوتوغراف والفيديو بمشاعره المتداخلة وهو يصرفنا عن توثيق قناته المفضلة!.
احتفلت بالصورة يومها أي ما احتفال، لأنها وضعت كل التصورات المسبقة في الذهن عن الصورة في قالب مادي، جلبت الفكرة وأحالتها إلى واقع ضمن حدود الإطار، نشوة تشبه نشوة النجاح في اختبار مخبري، أن تذهب الصورة الفوتوغرافية إلى حيث تريدها أن تكون..أغرتني التعابير في وجهه الثمانيني فرحت أجردها من ألوانها طمعا في تضاريس عمرية قد تساهم في محاصرة تآويل التلقي.
وفي شيء من الحماسة، أفرد لها الصديق عادل الصادق مساحة للنشر في الصفحة الأخيرة من القافلة الأسبوعية، يومها كانت الزاوية مختصة بصور الماضي، وقد وجد في وجه صاحبنا وأحادية الألوان في الصورة ما يكفي لتمريرها ضمن ذات القالب وذات الزاوية..أسبوع واحد فقط يفصل بين التقاط الصورة ونشرها، أسبوع ما بين فرح الرجل بصورته وحزنها عليها!.
المصلون في يوم الجمعة أطلعوه بفرح على صورته التي ما كانت إلا عنوانا للكدر بالنسبة له، نظر مليا فيها واستشعر ذلك الإصرار على إبراز تجاعيد العمر في وجهه، خرجت الصورة حينها من توقعاته، من حيز الوظيفة التي خصها الناس بها، أي التجميل، شعر معها بأن الصورة تذكره بأنه كائن على باب الآخرة!، وأن المصور لا يعدو أن يكون جاسوسا من جواسيس عزرائيل.
ذهب بمخيلته بعيدا كما ذهب بغضبه أيضا، كان ذلك بمثابة سؤال أخلاقي في فضاء الصورة، عندما يتعلق الأمر بتعريف المسن، واختيار صورة هو في الغالب يريد الهروب عنها، هذا الولع بتجاعيد الزمن في صور الفوتوغرافيين الخاصة بكبار السن ينبغي أن لا ينتهي إلى شحنها بالمزيد من التشديد على الهرم واقتراب الآخرة، أن لا تنتهي ألعاب الحرق والتعديل إلى طرد كل عناوين الحياة من باب أحلامه.
أوصلت له بعدها نسخة ملونة في إطار، كان فيها موغلا في الحياة، اكتشف فيها ذاته التي يحب، شعر بأنها لون من المديح، فكانت ابتسامته هي البدل الذي قايضنا به كلما وجدناه في متسع الطريق، يصافحنا هذه المرة مستأنساً ، وهو يهلل فرحا بـ”أبو الهواشم”، ذاك الذي تسلل إلى صمته وأخذه على حين غرة من عتبة البيت إلى أعتاب الصورة.
لقد استراح الآن، ولم تسترح الصورة بعد من أسئلتها!
رحمه الله.
رائع يا أبا الهواشم رائع