معصومة الزاهر.. دليل حيّ على صمود المرأة

أُمَّةٌ في امرأة

اشتياق ال سيف

معصومة أحمد جعفر الزاهر.. إنها حكايتي هنا. امرأة مميزة تألقت في مجالات عديدة ونجحت في كل ما يمكن للمرأة أن تمارسه كعمل، فلا نجاح ينظر اليه بتقدير قبل النجاح في تربية الأبناء و إدارة الأسرة و التصدي لكل العواصف التي قد تؤثر في سلامة سفينة العائلة، فالأم هي ربانها وقائد مسيرتها ومن يحافظ عليها من أمواج الحياة العاتية التي قد تعصف بها بين الحين و الآخر..

لقد وجدتُ هذه المرأة بحق من أعظم الأمهات التي أنحني لها احتراماً وتقديراً، و حين أسترجع ذكرياتي في بداية حياتي الأسرية و لم يكن لدي سوى طفلين؛ أجدها تتألق أمامي وكأنها والدتي الحنونة، فلطالما نصحتني وعلمتني واحتوت كل مشاعر التوتر والإحساس بالغربة المؤقتة.

كنت أراها تحتضن أحد عشر فرداً من عائلتها بنيناً و بنات، لم تتأفف من خدمتهم، وتحملت مرارة الحياة في كل مراحل تربيتهم، حتى استطاعوا تحقيق أحلامهم وبناء مستقبلهم وأوصلتهم إلى بر الأمان، ليشقوا طريقهم في الحياة.

أنتجت للوطن معلمين ومهندسين ومتخصصين في مجالات التقنية والعلوم العصرية المطلوبة في الوقت الحاضر، وشهد الجميع بتفوقهم وتميزهم. كل ذلك نتاج مصنع تربيتها وبآلية صبرها وسعة صدرها وتواضعها، وتقف خمسين عاماً جنباً الى جنب تساند أباهم وتعينه في الكفاح، من أجل توفير حياة كريمة لأسرتها التي أحسنت في تدبيرها وخطة ميزانيتها، واستطاعت بجهودها الحثيثة أن تجعلها مثال الأسرة المترابطة المتعاونة والمحبة بعضها لبعض.

كنت أشعر بالدفء العائلي حين يسعدني الحظ بزيارتها، فهي احدى عمات أولادي، وقد كانت جارتي في السبع سنوات الأولى من حياتي في منطقة لم أكن أعرف فيها أحداً، ولكن القدر والنصيب وتوفيق الله جعلني فرداً من أفراد عائلة كريمة، ووجدت هذه السيدة كالأم الحنون التي لم تبخل عليّ بجهدها ووقتها وترسم لي الطريق لأن أكون أما عظيمة مثلها.

ما يميز جيل الأمهات في زمن الطيبين ـ كما يتعارف عليه ـ أنهن فعلاً سطرن أروع الأمثلة في التضحية و العطاء والتفاني من أجل أن يبقى كيان الأسرة قائماً شامخاً.

تكمن العظمة والتميز حين يتجسد الإيثار مع وجود الحاجة والعطاء مع معاناة محدودية ما في اليد، ويبرز النجاح في القمة حين يكون نتاج مسيرة الكفاح المحفوف بالمصاعب. لذلك نحن ننظر بعين التقدير والثناء للمتفوقين برغم صعوبة ظروفهم أو قلة الموارد المادية أو معاناتهم من الامراض المزمنة.

و في المقابل؛ لا نستغرب تميز و نجاح فرد وصل إلى عتبات الدنيا محفوفاً بالخدم والحشم وكأنه تناول كل ما يتمناه على طبق من ذهب، فقد وُلد لأسرة تقرأ أحلامه في عينيه فتحقق له اضعافها فلا يشعر بلذة الكفاح كما يستشعرها المكافحون العصاميون.

وقس على ذلك في المجال التعليمي بعض الطلاب الذين يحصدون أفضل الدرجات بالغش والاتكالية وسرقة الجهود، فهم لا يشعرون بقيمة نجاحهم ولا ينظرون لأنفسهم باعتزاز كمن يحفر في الصخر كي ينقش حلمه و يحقق نجاحه بالكثير من الجهد المضني و الصبر.

هذه الأم العظيمة

مثل الكثير من أمهاتنا قبل عصر التقنية التي سهلت كل الأعمال المنزلية لخدمتنا، لم تكن أمهاتنا يتأففن من جلب الماء من الساقية البعيدة أو العيون التي كانت مصدرها الرئيس، و لم يشكين حرارة الموقد الذي يصنعنه بأنفسهن لأعمال الطبخ وإعداد الطعام.

لم تمل أيديهن و لم تكل من طحن الحبوب والبذور بذراع الرحى التي تسبب لأذرعهن الوهن وتتقرح جلودهن من خشونتها.

و لم يشعرن بحرارة الأسطح المعدنية التي كن يخبزن عليها العجائن المختلفة.. كم كانت حياتهن كادحة منذ الصباح الباكر، ولكن استعدادهن للعطاء و الخدمة وتقديس الحياة الأسرية وتربية الأولاد ورعايتهم؛ كان من أعظم المهام في الحياة وليس فوق ذلك لهن من هدف أكثر من الحفاظ على الكيان الاسري.

الأولويات مرتبة

ومن أسباب نجاح بطلة قصتنا في حياتها؛ ترتيب الأولويات وتقديم الأهم على المهم، فعلى قمة هرم اهتماماتها يأتي الدين أولاً بما يستلزم القيام بالواجبات المفروضة فليس لديها حب قبل حب الله و كتابه وأهل البيت عليهم السلام. وتأتي بعد ذلك والدتها و ضرورة برها ومساعدتها.

ويأتي الترفع عن سفاسف الأمور والمظاهر الكاذبة والتفاخر بما لا يعتبر معياراً للتفاضل، كالنسب أو الجمال الشكلي أو الثروة، برغم أنها أوتيت من كل هذه المقومات نصيباً ليس بالقليل، فهي سليلة عائلة عريقة من أشرف العائلات، وقد أعطاها الله نصيباً من الجمال كان سبباً في أن يطلب يدها الكثير من الرجال، و لم تكن قد تجاوزت الخامسة عشر حتى فاز بها من كانت من نصيبه من أبناء عمومتها.

لقد وفقت والدتها أطال الله عمرها في تعليم جميع بناتها علوم القرآن وسيرة أهل البيت و القراءة الحسينية، و قد برعت خمس منهن في هذا المجال، واشتركت معها في تعليم القرآن الكريم وتحفيظه لكثير من أطفال البلدة، وكانت أم علي معصومة الزاهر احدى هؤلاء الخمس.

لقد عشقت القران الكريم وكانت سعادتها كبيرة بهذا التوفيق الالهي لأنها تعلم.

إنها نعمة لا تضاهيها نعمة أخرى، فما أنعم الله على عبد بنعمة أعظم من القرآن الكريم يضعه في قلبه وعقله و يوفقه لفهمه و تعليمه و نشره. و لذا فقد جعلته مهنة أساسية وعلمته للآخرين منذ كانت مع والديها لم تدخل عالم الزوجية، واستمرت في تعليمه لما بعد ذلك، حتى يومنا هذا، وما زالت تضع نصب عينيها ألا تغادر الوجود بعد عمر طويل إلا وقد تركت لها صدقة جارية بشكل أي عمل في مجال العلوم القرآنية.

هواية محترمة

وقد انطلقت في مسيرتها الوظيفية لتمارس هوايتها المفضلة وهي الخياطة وتفصيل الملابس وإحرامات الصلاة والحج، منذ كانت على مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية، واستمرت فيها لما يزيد عن عشرين عاماً، إلى أن فكرت في الاتجاه للتجارة، حيث جعل الله تسع اعشار الرزق فيها، فاشترت قرطاسية بالتقسيط، ووفرت فيها الاحتياجات المكتبية والمدرسية، و من خيرها قامت بإعادة بناء بيتها وأضافت له أكثر من طابق ليكون شققاً لأولادها.

ولحبها للعمل وعدم ارتباطها بوظيفة رسمية، ولأنها مثال الأم الحنونة والمساعدة لأخواتها المعلمات؛ فتحت دارها للقيام برعاية اطفالهن، ثم قامت بتوسيع مشروعها ليصبح مركز لحضانة الأطفال، على ألا يكون عددهم كبيراً حتى يتم التركيز عليهم بكل إخلاص و تفانٍ و كأنهم قطع من روحها لا تفرقهم عن اولادها واحفادها.

وبالتزامها الديني وحبها للعلم والتثقيف؛ التحقت بالحوزة أكثر من ثلاث سنوات وكانت مثال الدارسة المهتمة بالتحصيل العلمي.

إن هذا النجاح الباهر في أكثر من مجال لهو توفيق من الله حيث كانت تربط كل نعمة وكل إنجاز بكرم الله وتأديتها للعمل بنية القربة ورضا الله، ولكي يكون النجاح حليفها بكل ما تقوم به تجتهد وتتسلح بالطموح انها ستحرز السبق والتفوق بفضل الله؛ فقد كانت تمارس العمل، ولا تجعل اليأس أو الملل أو صعوبات الأعمال سلطاناً يقلل من فرص نجاحها.

 ومن أسباب توفيق الانسان في الحياة بره وإحسانه لوالديه، وقد كانت أم علي مثالاً لذلك، فلكل إنجاز كانت لها وقفة للاشارة بفضل والدتها لا سيما في مجال تعليم القرآن الكريم و التشرف بارتقاء المنبر الحسيني و إحياء ذكر آل البيت عليهم السلام.

ومن أروع المحطات التي تعتز بها في حياتها وتفخر أنها وفقت لخدمة منبر الامام الحسين نور العين سلام الله عليه ليس فقط بالقراءة بل أهم من ذلك. إنها ساعدت في تعليم القراءة الحسينية للمرتادين على المآتم، ومنذ بداية زواجها كانت تفخر بمسماها الوظيفي التطوعي خادمة المنبر الحسيني ..

مركز تعليم

سجل حافل بالإنجازات وكأنها مركز لتعليم الوظائف، و مجمع يحوي الكثير من المواهب والكفاءات. انها دليل حي على صمود المرأة واصرارها على النجاح مهما واجههت من عقبات.

ان سيرنها الاسرية و مسارها العملي و تجربة كل شي؛ هو درس عملي لمن يلقي باللائمة على الظروف ليبرر فشله، فيتذرع بكثرة العيال أو الفقر أو الانقطاع عن الدراسة أو المرض، وحتى التقدم في السن. لكننا نعلم أنها حجج واهية، وغطاء للتقاعس عن العمل وعدم تحقيق الذات و القيام بدور مؤثر في الحياة.

إنني أنحني إجلالاً لأحد أقرب النساء من عائلة أولادي، وأعلن بكل ثقة ومصداقية و تقدير عادل أنها حقاً: (أُمٌّة في امرأة)، وأدعو لها كما تدعو دائماً لنفسها و أحبتها بحسن العاقبة ورضا الله، فليس بعد رضا الله إلا الجنة و جوار محمد وآله الطيبين الطاهرين.

‫2 تعليقات

  1. الاستاذة العظيمة الاخت الفاضلة ام احمد.. كل الشكر لكتابتك عن الشخصية المتميزة…كل فعل يجي منك جميل… انتي ايضا من الشخصيات المتميزات مكافحات متمكنه بابتسامة حتى لو كنتي متعبه او متالمة منك نتعلم فن اللطف استاذتي.. انسانة مثقفة والنعم فيك

  2. شكرا للكاتبة على هذا السرد الجميل والرائع لشخصية عظيمة وامرأة مكافحة تمثل السيرة العطرة لزمن الطيبين فحري بجيل اليوم ان يتعلم منها ويستلهم من سيرتها
    حفظها الله ورعاها

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×