علي اسْعِيد الدختر.. عينتْه مصرية “تَمَرْجِيْ”.. فتخرَّج ممرضاً..! عمل طبّاخاً في راس مِشعاب.. واكتسب خبرة التمريض في عدامة الدمام
توظف بـ 166 ريالاً، وبعد تقاعده استمرّ متطوّعاً في خدمة الناس
صفوى: أمل سعيد
على محمل الطرافة؛ ربط المتحدثون بينه وبين أجيال متعاقبة من أبناء صفوى الذين مرُّوا من مِشرطه الدقيق. كان “شاطرْ” كما قال بعضهم، و “إيدَهْ خفيفة”، ولا يحتاج عمله إلا إلى لحظات خاطفة، ليعود الطفل إلى أمه، بعد إنجاز المهمة.. مهمّة “التطهير”..!
وعلى محمل الجِدّ؛ يشهدُ له معاصروه بأنه كان واحداً من الذين مارسوا التمريض منذ البدايات، وجعلوا منها مهنة ذات مهابة، تكاد ترقى إلى مستوى “الطبيب”.. ولهذا عرف سكان صفوى اسم “عليْ اسْعِيْد الدَّخْتَرْ”.. وصفاً لـ علي عبدالله آل اسْعيد الذي احترف التمريض لأكثر من 3 عقود.
من هو الدَّخْتَرْ…!
رقّى الناس في صفوى “عليْ اسْعيد” من “ممرض” إلى “طبيب”، مستخدمين المسمّى العاميّ الذي كان شائعاً حتى عهدٍ قريب “دخَتَرْ” أو “دخْتُورْ”. كان عمله مُشابهاً لعمل الأطباء. يقطّب الجروح، يضع جبائر الكسور، يتعامل مع الحروق وغيارها، يشارك الأطباء مباشرة الحوادث، يُعطي حقناً، يُطهّر الأطفال الذكور، يشرح للمرضى بعض الأمور.
ولأنه يعمل في مستشفىً؛ لم يفرّق الناس بينه وبين الأطباء “الدخاتِر، الدخاتْرَهْ”. وهكذا التصق به اسم “عليْ اسْعيد الدَّختَرْ”، حتى بعد تقاعده، وتفرُّغه لحياة البحر والنخيل، واستمرّ به اللقب حتى وفاته.
انعطافات
ليس في قصة “علي اسْعيد الدختر” أيّ تعقيدٍ. إنها تُشبه قصصاً كثيرة لأناسٍ كانت حياتهم تسير في اتجاهٍ ما، ثم انعطفت فجأة نحو اتجاهات أخرى جعلت منهم رُوّاداً. وفي محيط مجتمع صفوى؛ كان “علي اسْعيد” أول الممرضين من سكانها، ومن أوائل الممرضين السعوديين في محافظة القطيف.
فكيف كانت حياة الرجل؟ وكيف انعطفت نحو التمريض..؟
نقلنا قصة الرجل عن مصدرين: شقيقه عبدالكريم، وصهره علي سلمان البحراني، وكلاهما زامله في مستشفى صفوى، ولكن في وظيفتين بعيدتين عن التمريض.
في المعلّم
حين تحدث شقيقه عبدالكريم عنه؛ كان الإجلال والتقدير واضحين في نبرة صوته.. كأنه يتكلم عن أبيه، مع أن فارق العمر ليس كبيراً. يقول “توفي أبونا ونحن مازلنا صغاراً وقد كان عمر أخي “علي” خمس سنوات، التحق بـ “المعلم”، وقرأ وكتب وختم القرآن كاملاً على يد المرحوم الملا عبدالله بن حسين الداوود”.
“آل اسْعيد” أسرة عُرفت بامتهان الصيد في صفوى، وبعضهم أضاف إليها الفلاحة. و “علي اسْعيد” نشأ في هذه البيئة المزدوجة حرفياً. لكنّه حين شبّ التحق بمهنة بعيدة عن البحر والنخيل.. يقول الحاج عبدالكريم “اشتغل في مطعم في راس مشعاب، في طريق الكويت. كان المطعم يقدم الطعام للمسافرين”. في وظيفة “طباخ” استمر عمله سنتين، “ولأنه يتعامل مع كل شيء بحب فقد كان الأكل الذي يقدمه أبو حسين هو المرغوب والمطلوب من زبائن المطعم، لذا حين قرر ترك المكان حاول مالك المطعم ثنيه عن قراره، لكنه رفض، بعد ذلك كان للقدر المكتوب كلمة”.
الدكتورة نفيسة
“اشتغل أخي في الدمام في عيادة خاصة مع دكتورة مصرية؛ الدكتورة نفيسة، كان صغيراً ويتعلم بسرعة، فعلمته كثيراً من أعمال التمريض.. عيّنته “تمرجي” العيادة”.
وما لبثت غير قليل حتى عادت إلى بلدها، وتركت “الدختر”. ولأنه أحب التمريض والمرضى والعيادة، “التحق بمستشفى تابع لوزارة الصحة في الدمام، حيّ العدامة. وبقي فيه سنة واكتسب خبرة وتدرباً هناك.
مستوصف صفوى
في بداية الستينيات الميلادية (الثمانينيات الهجرية)؛ زار الملك سعود، رحمه الله، القطيف. فدعاه وجهاء صفوى إلى زيارة بلدتهم، وأثناء استضافته في مقر مدرسة علي بن أبي طالب؛ عرضوا عليه مطالب البلدة، فكانت أولى الاستجابات مستوصفاً صحياً بدأ عمله سنة 1382، في مبنى كان يُعرف بـ “عمارة المرهون”، وعُيّن فيه طبيب مصري اسمه الدكتور أحمد توفيق وجدي، وهو أول طبيب عمل في صفوى. فكان ذلك سبباً في عودة “علي اسْعيد” ليعمل في مسقط رأسه، وفي المهنة التي أحبّها.
وما هي إلا مدة قصيرة حتى اقترح عليه “الدكتور وجدي” فكرة الحصول على شهادة في التمريض. لكن الشهادة تتطلّب العودة إلى الدمام مُدة سنة كاملة. تردد “علي اسْعيد” في البداية؛ لكنه وافق. وبعد السنة؛ عاد، مجدّداً، إلى مسقط رأسه مُمرِّضاً رسمياً، ليُزامل ممرضاً آخر من بلدة القديح اسمه أحمد كويس، ليشكّل الثنائيُّ نواة سعودية للتمريض في صفوى.
ويقول شقيقه عبد الكريم “توظف أخي في المستشفى براتب 166 ريالاً في الشهر، بعد خصم 4 ريال طوابع، وبزيادة في الراتب بمقدار 20 ريالاً كل سنتين”.
مستشفى صفوى
وفي عام 1387؛ افتتحت وزارة الصحة مستشفى صفوى العام، فالتحق به الممرضان، اسعيد وكويس، واستمرّ الأول في المستشفى نفسه إلى حين تقاعده. أما الثاني فقد انتقل إلى القطيف، حتى تقاعد لاحقاً وتوفاه الله.
تركز عمل “علي اسْعيد” في الطوارئ، في الإسعاف، حيث تتركز مراجعات المرضى. لكنه لم يكن يرتاح بعد مغادرة المستشفى. كان الناس يطلبون خدماته خارج العمل. وحسب شهادة شقيقه عبدالكريم وصهره …؛ كان بعضهم يقصده في بيته ويطلب منه إعطاء حقنة، أو غيار جرح، أو “تطهير”. وبعضهم يطلب إليه الحضور إلى بيته لبذل مساعدة من هذا النوع.
تطوّع
كانت “تطهير” صغار الذكور من أعمال الحلّاقين في الزمن السابق. لكنّ ظهور “الدخاتر” نقل المهمة عنهم. وفي محافظة القطيف؛ كان الناس يذهبون إلى المستشفى القديم، الواقع قريباً من مركز الخدمة الاجتماعية شرقيّ القلعة، قبل افتتاح مستشفى القطيف العام في أواخر الستينيات الميلادية.
وفي صفوى؛ كان على الناس أن يطلبوا الخدمة من الحلّاقين، أو يذهبوا إلى القطيف. لكن وجود “علي اسْعِيْد الدختر” في صفوى سهّل عليهم المهمة. ويعلّق علي سلمان البحراني على ذلك بقول “كان يخدم الناس ببلاش”. يُضيف “بعد الدوام كان في خدمة أهله وجيرانه، في الليل والنهار بدون أجر يطهر ويحقن الأبر ويعالج الجروح والحرق، ما يرد أحد ويتعنى لأي أحد يحتاجه”.
وكان الناس يفضلونه على الممرضات الأجنبيات.. يقول البحراني “إيده خفيفة، وما يعوّركْ، من أول شكّة يجيب البرايَهْ في الوريد”.
البحراني زامله “31 سنة، كان عند الناس أهم من خريجي التمريض، سواء في نشاطه وعمله أو في أخلاقه وتعامله مع المراجعين، كان يحبه الجميع ويطلبونه”.
إلى البحر والنخيل
حين تقاعد علي اسعيد الدختر؛ كان في الـ 60 من العمر. ومع ذلك؛ لم يردّ أحداً طلب مساعدة منه. فوق ذلك؛ بقي مجلسه مفتوحاً، ولم يكن يتضجّر من أحد، أو تعامل مع مريض بتململ أو جفاء، حتى لو جاءه في آخر الليل”.
بعد تقاعده؛ حاول العودة إلى هوايته الأولى، صيد البحر، ومتى ما سمحت له الفرصة أخذ شباكه وتوجه إلى البحر. ولما كبر وأصبح موج البحر أكبر من قوة ساعديه وساقيه اتخذ قطعة من الأرض فسحة لروحه، فكان كلما شعر بالضجر من المدينة توجه إلى عرشة خشبية في وسط مزرعته وألقى بثقل السنوات عليها منفرداً مع الأرض الناشئة والسماء المفتوحة.
هكذا انتهت قصة عاشق لم يعتد أن يمارس شيئاً دون أن يحبه، ويخلص له. وتوفي علي اسعيد الدختر في 1/5/1428 تاركاً آثاراً طيبة في نفوس من عرفه وعاشره.
من أرشيف زميله سعيد فريد
من أرشيف عبدالله الزاهر
من أرشيف العائلة
رحمه الله رحمة الأبرار
الله يعطيش الف عافية استاذة امل الكلام في منتهى الروعة ,الف رحمة ونور تنزل على قبره
رحمة الله عليك يبوحسين، كنت خير معين لأبناء صفوى وماحولها.
رحمك الله يا ابو حسين