الحمود والعرفات.. “مَهديّان” كفيفان تحدَّيا السرطان والبطالة فقدان البصر جعلهما "شمعة" تضيء للمكفوفين.. والمبصرين أيضاً
القطيف: شذى المرزوق
كلاهما يحمل اسم «مهدي»، كلاهما فقد البصر، كلاهما يحمل بكالوريوس في التاريخ من جامعة الملك سعود في الرياض، التي التحقا بها بعد تخرجهما من معهد النور في القطيف، ثم مدارس الدمج.
هل تكفي هذه القواسم المشتركة بين مهدي العرفات الشاب القديحي، ومهدي الحمود السنابسي؟
لا؛ ففي حياتهما قاسم مشترك آخر، ربما هو الأكثر أهمية؛ الإيمان بخدمة المجتمع عموماً، وفئة المكفوفين على وجه الخصوص.
قبل 10 سنوات؛ ارتبط العرفات، بصداقة مميزة مع الحمود، انطلقا من تجربتهما وصعوباتها لخدمة بقية المكفوفين. وفيما قرر العرفات دعم المكفوفين بطباعة الكتب بلغة «برايل»؛ نفذ الحمود مبادرات ترفيهية اجتماعية لهم، لبث طاقة إيجابية في نفوس المكفوفين، وتوجيه رسائل إليهم وإلى المجتمع بأنه «لا فرق بين كفيف يمتلك العزيمة، ومبصر يمتلئ باليأس، وعلى الجميع أن يكون إيجابياً حتى يحقق أحلامه».
مهدي العرفات
بداية الصداقة
نشأت الصداقة بين العرفات والحمود في قاعات الدراسة الجامعية بالرياض، وإن باعد بينهما فصل دراسي واحد، بعد أن تعذر على الحمود استكمال الفصل لأسباب صحية، ليتقدم العرفات في تخرجه، وحصل على وظيفة في المجال التعليمي، بينما بقي صديقه بلا وظيفة منذ عام 2011، حيث بدأ الحصول على وظائف للمكفوفين يأخذ مساراً صعباً في القطاعات الخاصة والعامة، بحسب ما ذكر العرفات في حديثه لـ«صُبرة».
البصر مُبتلى بالسرطان
يحكي العرفات (34 عاماً) قصته مع العمى «بدأت بعد سنة ونصف السنة من ولادتي، حين اكتشف الأطباء أنني مصاب بالسرطان في عيني اليُمنى، ليتم استئصالها في سن مبكرة جداً».
مع ذلك؛ واصل حياته بدعم كبير من عائلته، واستمر في تفوقه الدراسي، حتى تخرجه من الجامعة، ليتم تعيينه معلماً في إحدى مدارس مدينة شرورة جنوب المملكة، حيث المسافة بين مسقط رأسه ومقر عمله تناهز 1500 كيلومتر.
التنقل بينهما، والحياة في مجتمع يختلف في بعض طباعه، قد تكون أمر صعباً على مُبصر، فكيف يكون الحال مع كفيف، ولكن العرفات يرى أن «العاجز ليس من تعرقله إعاقته، بل من يعرقل نفسه بإعاقات ذاتية يصنعها لنفسه»، مبيناً أنه رغم الاعاقة والغربة إلا أنه كان متكيفاً بعمله في شرورة، وسعيد بوظيفته، وهو ما كان يثير استغراب البعض وتساؤلاتهم؛ كيف تحمل الغربة والعمل بعيداً عن القطيف؟
للعجز عند العرفات تعريف آخر، يقول «أن أرفض عملاً بحجة البُعد أو الغربة وإعاقة البصر، وأبقى بلا عمل، لأكون في منطقتي، فهذا هو العجز الحقيقي، ولو استمعت لتلك الآراء؛ لكنت صنعت أمامي إعاقة ذاتية أمام التطوير وخوض تجربة جديدة».
أضاف «بعد عامين في شرورة؛ منّ الله عليّ، وانتقلت إلى محافظة القطيف، للعمل في إحدى مدارسها الثانوية، معلماً للعوق البصري في برامج دمج المكفوفين».
السرطان يعود أشد ضراوة
تطرق العرفات إلى بعض جوانب قصته، ومعاناته مع المرض، «تعرضت لهجمات سرطانية متكررة على جسدي، فالسرطان الذي تمت معالجته منذ كنت طفلاً، عاد عام 2015، وهاجم العين اليسرى، وتم استئصاله من عظم العين. وما كاد جسدي يرتاح منه؛ حتى عاود الهجوم، وهذه المرة استهدف سقف الحلق، ليتم استئصال جزء منه العام الماضي (2020). وشخّص الأطباء حالتي في العام الجاري (2021)، على أنه سرطان في قاع الجمجمة؛ تحت الدماغ، ولا مجال هذه المرة لاستئصاله، بحسب الأطباء الذين اكتفوا بالعلاج الكيماوي».
رغم ما سبق؛ لا يرى العرفات أن هناك جوانب سلبية ومظلمة في حياة الكفيف «مثل هذه الأمراض والابتلاءات قد تصيب المبصر، وما على الشخص سوى أن يتصالح مع نفسه، ويتعايش مع ظروف حياته، متقدماً فيها لا متألماً يائساً، ولذلك كانت الخدمة المجتمعية خير سبيل، أفرغ فيها جزءاً من طاقتي، لأنعم بإيجابية الشعور والسلام الداخلي».
مساعدة المكفوفين
الابتلاءات الكثيرة في حياة العرفات لم تثنه عن تطوير ذاته «انخرطت في دورات محلية، وأخرى خليجية في البحرين، وثالثة عربية في المغرب، وحصلت على رخصة تدريب على حقوق المعوقين، ودورات في المسؤولية الاجتماعية، وأخرى في علوم وبرمجة الحاسب الآلي، ونقلت الخبرة لمن أعرفهم من مكفوفي القطيف، في محاولة لتطوير إمكانات بعضهم، ممن يملك القدرات ولا يملك العزيمة».
لم يكتف بما سبق؛ إذ قام مجدداً بتعلم بعض الجوانب التقنية والحاسوبية، متجها نحو طباعة الكتب بلغة «برايل»، لمساعدة محبي القراءة من المكفوفين، وتنمية الجانب التعليمي لديهم.
ولأن كلفة الطباعة والأدوات غالية جداً، مقارنة بالطباعة العادية، خاصة إذا عرفنا أن ماكينة طباعة الكتب بلغة «برايل» قد تصل قيمتها إلى 30 ألف ريال؛ لذلك قام بتأمين مبلغها، وشراء الطابعة، والبدء بالعمل على طباعة الكتب للمساهمة بنشر الثقافة بين هذه الفئة.
مشاركات شكلية
استدرك العرفات بان هناك مساعدات تُقدم للمكفوفين مبالغ فيها، لا يطلبها الكفيف، وهذا قد يثير حساسية البعض، مستشهداً بمن يقوم بعمل بعض الفعاليات بمشاركة ذوي الاعاقة فقط للتصوير وتسليط الضوء على المؤسسات الداعمة، في حين أن هناك جوانب أكثر أهمية تعزز حياة الكفيف، ولا يتم الاهتمام الفعلي بها.
لذا؛ لا يحبذ المشاركة في مثل هذه الفعاليات الشكلية، والحضور أمام إعلام أو منصة. يقول «لا تسأل إلا عن ما واجهته من صعوبات، في غفلة منهم أن المُبصر قد يُبتلى بصعوبات أكبر من الكفيف، فما الفرق هنا بين كفيف ومبصر؟ المسألة تدور فقط حول الإرادة والعزيمة».
من العمى الجزئي إلى الكلي
اتفق مهدي الحمود، مع زميله العرفات على أهمية تعزيز مبدأ تصالح المعوق مع ذاته، والسعي للتطوير المستمر، مهما كان نوع الاعاقة أو العراقيل الموجودة.
عن مسيرة حياته كفيفاً؛ قال «ولدت بمرض العشى الليلي، وهو عمى يكاد يكون جزئياً، ولكنه يسمح برؤية ضعيفة جداً، هذه الرؤية انعدمت تماماً مع مرور الوقت، وأصبت بالعمى الكلي، بعد أن قمت بزراعة كلى قبل سنوات عدة، حيث يحتاج زارع الكلى إلى استخدام حبوب «الكورتيزون» التي تخفض مستوى المناعة في الجسم».
أضاف «تأثرت شبكية العين، وبدأ الضوء الخافت فيها ينعدم، حتى وصلت إلى مرحلة العمى الكلي».
10 سنوات
يُكمل الحمود قصته «لم يحالفني الحظ في الحصول على وظيفة، رغم محاولاتي المستمرة في قطاعات مختلفة، وكانت الحجة لدى مسؤولي الشركات أن قدراتي قد لا تتناسب مع متطلبات الوظيفة، من دون أدنى محاولة من أرباب العمل في تجربة إمكاناتي وقدراتي، التي قد تفوق إمكانات المُبصر».
ومع ذلك؛ لم يتوقف، استكمل دراسته في مجالات متعددة، وتلقى عدداً من الدورات بلا توقف، منذ تخرجه قبل 10 سنوات.
حصل على دبلوم تربوي من الجامعة العربية المفتوحة، وآخر في العلوم الإنسانية من أكاديمية «انماء»، وثالث في اللغة الإنجليزية، عدا الدورات المختلفة في التقنية والتطوير. ولم يكتف بذلك؛ إذ صب جل اهتمامه على ممارسة الرياضة، وتلقي الدورات التعليمية المختلفة، يقول «أمارس ألعاب القوى، وشاركت ضمن لاعبي مركز المكفوفين الرياضي في القطيف ضمن بطولات عدة».
جوانب الحياة
لم يركن الحمود إلى الراحة، واصل بحثه عن فرصة عمل حر «لم أتوان عن البحث عن أي مشروع يعود علي بالفائدة، وبحثت كثيراً، وخرجت بفكرة استخدام عدد من السائقين لتوصيل الطالبات والمشاوير الخاصة. ولكن هذا المشروع، رغم نجاحه في البدايات؛ إلا أن قيادة المرأة السيارة، وأزمة كورونا أسهمتا في خفض الاقبال على هذا النشاط التجاري. والآن أتلقى دورات في تدليك القدمين، لعلي افتح مشروعاً جديداً في المحافظة».
وبارتياح نفسي؛ تحدث الحمود عن مساعدة المكفوفين، ووصفها بأنها «نعمة من الله أن تجد لديك الرغبة والقدرة على إسعاد الآخرين، والاقتناع بأن هذه الحياة تمضي قدماً، ولا تستحق من أي كفيف أن يبقى منطوياً بعيداً عن المجتمع والناس، لمجرد أنه مختلف عن الآخرين، لذلك قمت بدوري؛ صديقاً وكفيفاً يعرف معنى الشعور بالاختلاف، وإنساناً يعلم يقيناً أن في الحياة جوانب تستحق أن نعيشها، وأقوم ما بين فترة وأخرى بعمل دعوات لتجميع الأصدقاء المكفوفين، والاستمتاع معاً بأجواء فيها شيء من المرح والترفيه، والتغيير، وتنظيم رحلات وجلسات ترفيهية».
ووجه رسالة إلى كل كفيف «لا يعني كونك كفيفاً أنك مختلف بنقص، بل أنت مختلف بإيجابية، يجسدها تصالحك مع نفسك، وتطور ذاتك. ورغم كل شيء؛ هناك من لا يملك ما تملك رغم أنه مُبصر».
اللهم اشفي كل مريم
والمهديان صديقان عزيزان على قلوبنا
وتزداد علاوة مهدي حمود غلاوة على أنه ابن عمنا