تآويل المكان في تحولات الزمان

أثير السادة*

 

الذين يطمعون في عودة الزمن إلى الوراء، إلى مرافئ العمر الأولى، واللحظات البكر للمكان، هم في الأغلب مأخوذون بعنوان الحنين للماضي والاغتراب عن الحاضر، فقدر الماضي أن يمضي، وقدر الأشياء أن تتحول، والأعمار أن تنقضي، فلا أبناء البحارة يريدون حقيقة بأن يكونوا أرواحا تصارع الأقدار بحثا عن لقمة العيش ، ولا أبناء الفلاحين يريدون العودة إلى مطاردة مواسم الحصاد، والترنح على مؤشر الأنواء.

تنهال علينا بين يوم وآخر الكثير من الصور والمقالات والخواطر التي لا تكف عن مطاردة الأمس، وترويض المشاعر التي كلما اتسعت المسافة بيننا وبينه تركت فينا شعورا بالفقد، حتى لنجمع الأنفاس حولها كمن يرثي وحشته في تحولات الوقت، وفي ذلك ما هو طبيعي ومفهوم، والكثير مما يثير التساؤل والذهول عن قيمته وصوره، ومبعثه ومؤداه.

لقد خسر الناس أشياء بخروجهم من مرحلة إلى مرحلة، كما كسبوا في المقابل أشياء في مغامرات النفط التي حشدت كل الوعود الاقتصادية على باب الحياة الجديدة، ثمة تكاليف وأرباح في كل الحسابات، وهنا يتنهد الناس وبالأخص من عاصر فصولا مختلفة من التحولات، كلما قارنوا صورة بأخرى، والصور هنا تتصل بعلاقة الكائن بالمكان المحيط به تحديدا، فالذي سُرق من الناس في خضم التحولات هو تلك الصلة بالبيئة المحيطة، والتي كانت ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية تهب الناس الكثير من الأسباب للالتصاق بها، حضورا وتفاعلا وتشييدا.

بالأمس كانت لغة الناس وسلوكهم وأنماط تواصلهم الإجتماعي وعلاقاتهم القرابية مثقلة بروح المكان، فالمكان في صورته البكر كان شرطا وجوديا في المقام الأول، يهب الناس ألوانهم ومزاجهم وأسباب الديمومة والحياة على هذه الأرض، فكانوا صدى لروح المكان، للخليج الذي يحيط بهم، وللعيون التي تروي مزارعهم، ولريح الشمال التي تهدهد سعفات نخلهم، ولتلك الشمس التي لا تغادرهم طيلة العام..ابتكروا معها قصصا وأشعارا وأمثالا، حرفا ومهنا، حزمة من العادات والتقاليد، والطقوس التي كانت تفيض بروح المكان.

اتسعت بهم المدينة، وضاقت معانيها، خرجت الأرياف من ريفيتها، فخرج إنسان المكان من صورته الأولى، لم يعد أحد يدوس الأرض بأقدام عارية، ولم يعد البحر أرجوحة للباحثين عن مغامرات الصيد، تم إعادة هندسة للمكان والإنسان بنحو لا يبتكر الكثير من المعاني التي عرفها إنسان الأرض سابقا في علاقته بالمكان، هذه الكيمياء التي انحسرت بصعود الاسفلت، وجدران الاسمنت، وانحسار البراحات، والمساحات الخضراء والأسياف، هي التي يرثيها الناظرون إلى صور الأمس، هم يتعطشون إلى مكان يمتلئون به ويمتلئ بهم، مكان يتنفسونه كذاكرة وكقصيدة كتبوها بركضهم الطويل فيه.

الجيل الذي ينشأ اليوم خلف الجدران الباردة، وخلف الشاشات المضيئة، والجيل الذي يصافح المكان عبر زجاج السيارات، لا أحسبه سيعيش المكان بتلك الكثافة الشعورية، سيعرفه سؤالا فقط حين يتبدى عنوانا للهوية وهو يموضع ذاته على خارطة التقسميات الاجتماعية والمذهبية، وليس بوصفه مرآة وجوده وخريطة روحه التي كبرت بالتماهي معه.

لذلك لا ينبغي أن يصبح الحديث عن تحولات المكان مرصودا لرثاء صورة مجردة من المعاني، وإنما يلزم أن يكون حديثاً عن قيمة حقيقية لا عاطفية، فكل المرافعات التي تنصب خيامها في طريق التحولات تصبح غير ذات جدوى إذا كانت مجرد تعبير عن فرط الحنين لصورة زائلة، فالمكان بطينه ومائه وشجره وهوائه يمتزج بروح الكائن ويأتلف معه ويمنحه هويته وصورته.

____________

*من صفحته في الفيسبوك.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×