القطيفُ.. عداءةً في مارثون الشعر الحسيني
سيد أحمد الماجد
لكربلاء إحداثياتٌ كثيرة غير تلك التي تتغنى بها الجغرافيا. منها الخيالية ومنها الروائية وصولا إلى الموسيقية. ولعل الشعر والمجاز أكثر تلك الإحداثيات غنى وسعة لا تعد بالوصول. تيه بوصفه كربلاء أخرى يزاولها الشاعر، لا تقف فيها إشارات البوصلة حين يحملها المعنى أقطابا تغزل قميص الانفلات من إبرة الختام.
في كل موسم عاشورائي تقف كربلاء على خشب المخيلة، متنقلة بين أزياء المأساة والسؤال والغناء والتحدي. متاحة للابتكار على رغم فستانها القديم الذي اعتادت ارتداءه في نسقها الاحتفائي.
هي عاشوراء الشعراء التي تتلاطم فيها القصائد بين الحكاية والسرد والمعتاد والمبتكر. تقع بين يديك قصيدة تتلاعب بمخيلتك فتأخذ منك المكان والزمان وتضعك على بُحيرة من النوافذ المفتوحة حيث المعنى الجديد المحمول على رقبة النص ككاميرة مليونية الأبعاد. قصيدة تكتشف كربلاء المليئة بالزوايا العذراء وتضعك على ملامح حسينية لم تخطر على بال المرآة، ملامح غير مكتشفة لا تفضحها مخازن القوافي وخارطاتها اللفظية.
طموحٌ لا يتحقق دائما ولا يخيب دائما. على مر نصوص أعاد الشاعر فيها تدوير مفرداته بترتيب جديد القالب لا تختلف جدا عنه ألبومات الأعوام السابقة. ليسخر القلم إياه تماشيا دقيقا مع الترتيب المنبري للمناسبة. شاعرا يتباين مع نفسه بشكل طفيف لأنه ببساطة يتمحور حول الثواب والمشاركة بوصفها هدفا ويفتح مجلسه الحسيني داخل النص كما يفتح مجلسه شيخ الحارة الرتيبة بذات الشعارات وذات الأقمشة. فكم شاعر شوهد متنقلا بين مفردات اللوعة والشجى والأسى والرزايا والبلايا والتفجع بنفس المعالجة وكأنها إعادة غسل ثوب ملبوس.
للقصائد في عاشوراء القطيف زخم واسع وازدياد ملاحظ ومشاركة كثيفة وخصوصا تلك النصوص التي تأتي على شكل حلقات منها ما يأتي بشكل منساب وكثير منها يأتي كأجواء الواجب المنزلي اليومي نصوصا روتينية أجبر الشاعر فيها نفسه على حلب مخيلته ولو كانت منهكة ولو كان محاصرا بألوان مجموعته الحولية. نصا اغتصبته الذاكرة القريبة وألقت بجسدها عليه فلا تجد إلا مسافة مذبوحة في المكان ذاته. الكتابة بوصفها إجبارا ناعما محببا لكي لا يغيب المؤلف عن الورق ولا يريح حصان الصدى ولو لمناسبة واحدة.
هذا الجو المنهك الذي ربما لا طاقة للمخيلة به قد لا يأتي بنص مغاير يقفز على ارتفاع نصوص أخرى ذات جودة عالية في التفجع والبكاء والفخر والعنفوان. وربما لا يوفق الشاعر ذو الطموح الذي يحترم سقفه للقفز على نفسه أو على سقف قديم أعلى مما يليه. سيل من القصائد العمودية المتكئة على مفردات القوافي يستند على المخزن الأولي من معاني القافية. مما ينتج نصا بديهيا مفضوحا وخصوصا لدى القارئ الحقيقي المتشبع بالنماذج. أن تكتب نصا عموديا تسرق معانيه من كلمات القافية بشكل يجعل أي محترف يصطاد مخيلتك منذ مطلع القصيدة. مما يحصرك في المنطقة الحتمية المطروقة من قبل السابقين لأنك ببساطة تتبع التكتيك والمراحل نفسها التي يمر بها ابتداءا مريحا أي شاعر عمودي. الانطلاق من مخزون القافية لا من فضاءات الفكرة الحر يجعلك أسير المعاني المفتضة حد الاستهلاك مما لا تبرره نظرية الحافر على الحافر كفكرة بديهية حيث الخروج والدخول من الباب نفسه.
النص بوصفه اصطيادا لا فرضا من فروض الطاعة المناسباتية المحددة بجدول وقتي إجباري أو برغبة حتمية في المشاركة كيفما كان. أن تكون شاعرا حسينيا لا يعني أن تكون شاعرا مجدولا في كل ليلة أو مساهما تقليديا في المجلس المبارك يقدم الشاي والسويترول. اللحاق بكربلاء المخيلة ينبغي له أن يتكاثر بجودة البركة وعبقرية التفرد والمثابرة لا بالبركة التقليدية الوافرة حد اللامبالاة. لم يعد مقبولا الرضا بمستوى متواضع لضمان المشاركة وحسب، بل بما يليق بفخامة الفاجعة وتفردها، نصا يخرج روح الشاعر من جسده إلى الورق ومن الورق إلى التموج في بحر أوجاع الإمام الحسين ومأساته وثورته وتحديه.
ظهرت في عاشوراء الشعر القطيفي الكثير من النصوص المجدولة والمسلسلة التي التزمت بها مجموعة متباينة من الشعراء تراوحت بين الخبراء والمبتدئين. فتأرجحت هذه المسلسلات النصية في مستواها بين الشعراء المشاركين وكذلك تأرجحت بين حلقات الشاعر نفسه. وفق بعض الشعراء في الحفاظ على جدوة النص وجدوى قراءته إلا أن بعض النصوص كان مفضوح المعاني ومستشفا من الرف الأول في مكتبة مفردات القوافي دون تسجيل أي مفاجأة أو مغايرة لتخمين القارئ واستنتاجه. نسخا صارخا وتقليدا غير مباشر وغير متعمد على خطوات أي شاعر آخر.
بالمقابل كان يبدو الضعف لدى الشاعر بين نص وآخر بحيث يشعر القارئ وكأن كاتب النص يخوض سباقا طارئا مع نفسه لقص شريط الليلة وتقديم النص أداءً لوجوبه قربة للروتين السنوي في تمام الساعة والدقيقة والثانية لفتح مأتم القصيدة مما أنتج نصوصا كمية مضافة للنوعية يفتضح في بعضها عدم ارتياح وانسجام الكاتب تصاعديا فكلامك لا مكانك سر. ولكن من خلال نظرة عامة يبدو إجمالي الفعالية الأدبية الحسينية القطيفية واعدا هنا ومتقدما هناك مما يضع المشهد الشعري القطيفي في حالة تنافسية متعافية خاصة إذا أحصينا الحصادات المتتالية في المسابقات الدولية في الشعر الولائي. فالشعر القطيفي يمثل رقما صعبا ونتاجا ذا قيمة إجمالية عالية رغم أنها لا تخلو من نقاط هزيلة وبقع ينبغي الالتفات إليها.
تستفز الكتابة الجبرية الشاعر المراهن على الدهشة والتجديد والإضافة للشعر العربي وللنص الحسيني بشكل خاص ولإنجاز الشاعر نفسه مضمونا وفكرةً. يجب أن لا تتقهقر كتابة النص البكائي الجديد عن مستوى النصوص العالية التي عالجت القضية الحسينية بوفرة وجودة متفردة بعيدا عن الفائدة الأنانية لسلة آنية من البركة.
من حق الشاعر أن يعطي لنفسه فرصة الانفلات عن أصابع النص ليعود له مجددا أكثر حيادية ومحاكمة ونقدا لما كتبه وهذا يستدعي فاصلة وقتية واستراحة كافية بين التقييم والكتابة وثقلا يحرر الشاعر من عبودية النشر، ومن سباق المشاركة إلى مشاركة السباق.
الحصان النصي الذي لا يفارق حوافر أسلافه لا بد أن يفتعل منطقة جديدة ومضمارا ابتكاريا ينجح في تغيير خارطة الأفكار ويضيف أثرا ممتازا. أن تكون أنت لا أن تكون الآخرين حتى يجد القارئ المحايد سببا لقراءتك أنت، سبب وجيه أن لا تكون نسخة. فهل توجد في أحداث كربلاء مناطق إيحائية ما زالت معتمة بانتظار من يسلط عليها القلم؟ مناطق أشمل وأوسع من حلقات المناسبة؟ سؤال يجب أن يتوقف عنده الشاعر الحسيني الطموح قبل كل مطلع وصولا لبركة حسينية متميزة ومتقنة فالشاعر ليس آلة نسخ بل آلة خلاقة للصور المبتكرة مترفعة عن خفة النشر وهوسه.
“أن تكون أنت لا أن تكون الآخرين… فالشاعر ليس آلة نسخ بل آلة خلاقة للصور المبتكرة”
أحسنت سيدنا ومقال لطيف ويلقي الضوء على تقليدية شعراء القطيف ووقوعهم أسرى صيغ جاهزة متكررة 🌹