المثقف بوصفه مسخًا مقاربة نقدية لمحاضرة الشيخ أحمد سلمان
مظاهر اللاجامي
لعلّ من الدلائل الكاشفة في السنين الأخيرة على حضور المثقف في الفضاء الاجتماعي ازدياد تناول مفهوم المثقف، تعريفًا ونقدًا، في موسم محرم من قبل الخطباء، ومناقشة ما يطرحه عدد من المثقفين من تساؤلات نقدية، بأسلوب تهكمي تهريجي كما فعل السيد منير الخباز سابقًا، أو بأسلوب يتخذ طابعًا معرفيًّا، وإن لم يخل من التهكم الضمني وأسلوب الشيطنة لكل مغاير، وفي هذا السياق الثاني تأتي محاضرة الشيخ أحمد سلمان “المثقف بين الواقع والتطلعات”؛ التي ألقيت خلال الأيام السابقة من موسم محرم من هذا العام، والذي يحيي فيه الشيعة سنويًّا ذكرى الشهيد الحسين بن علي الذي قتل في واقعة الطف يوم العاشر من محرم.
يعلن الشيخ أحمد سلمان منذ بدء محاضرته أنه سيتناول “عنوانًا” من العناوين الحاضرة بقوة في مجتمعنا، والتي حسب رأيه تحتاج لمعالجة. وكلمة معالجة كلمة عامة، إذا لم تُحدّد منطلقاتها النظرية والمنهجيَّة، وأدوات الاشتغال المعرفيَّة التي سيتناول من خلالها الشيخ مفهوم المثقف، فبحسب ما قاله في المقدمة، وما أتفق معه تماما أن مفهوم المثقف ليس مفهوما منجزًا متفقًا عليه من قبل الفلاسفة ومفكري العلوم الإنسانيَّة، بل ما زال مفهومًا يتم الاشتغال عليه، أي مفهوما إشكاليا ما زال في طور الإنجاز، إنْ لم يكن مفهوما لا يمكن إنجازه نهائيًا، وإنّ هذا المفهوم يتم تناوله من خلال عدة أبعاد، البعد الفلسفي، والبعد الإبستمولوجي، والبعد التاريخي، والبعد الاجتماعي. وهو ما لم يتضح من خلال محاضرة الشيخ قط. وقد أشار في المقدمة لذلك على نحو عارض، بقوله إن “الكلام في المثقف والثقافة ليس بهذه البساطة”، فهل خرجت محاضرة الشيخ من خانة البساطة نحو العمق المتوقع منه، بعد هذه المقدمة التي تموضع نفسها حتمًا في الناحية الأخرى من البساطة، فالتبسيط في تناول المفهوم يفترض ضمنًا من المتحدث أن يطرح المفهوم بعمق؟!.
منذ بدء المحاضرة نجد عدم الوضوح النظري إن لم نقل التخبط المنهجي عند الشيخ، وهو أنه استبق المقدمة بأن ذكر النتيجة المرجوة من محاضرته، وهي تهميش وتسخيف المثقف، وتحييده عن جدية الطرح المعرفي والتساؤل النقدي. ويتضح ذلك من خلال إشارته أن مفهوم المثقف اختلف فيه، ووصلت تعريفاته لما يناهز المئة، ومن ثم يجيء “من قرأ كتابين” ليطرح نفسه كمثقف، ونجد حكم القيمة الذاتية حاضرًا في عبارته تلك بكل وضوح، والسؤال هنا، كيف أخرج الشيخ من “قرأ كتابين” من كونه مثقفًا، رغم أن تعريفات الثقافة ناهزت المئة حسب ما ذكر.
ولعل هذا الاختلاف والاتساع والشتات في تعريف المثقف يحتّم أن يكون الشيخ أكثر دقة وتسامحًا وتواضعًا في أحكامه الجاهزة حول المثقف، ولست أدري إن كان الشيخ أغفل التعريفات العديدة التي طرحها علماء الاجتماع للثقافة، والتي لم ترهن الثقافة بعالم الكتب والقراءة ومجال التفكير، أي الإنتاج الثقافي بالمعنى الحصري للكلمة. وهنا يشير ديفيد إنغليز وجون هيوسون في مقدمة كتابهما “مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة” لذلك بقولهما: “راجع اثنان من علماء الاجتماع، هما الفريد كروبر وكلايد كلوكهون في أوائل الخمسينيات، الدلالات المتنوعة لكلمة ثقافة (وقرينتها حضارة) فعثروا على 164 تعريفًا لما قد تعنيه الكلمة، ومن المعروف أن الناقد الأدبي رايموند وليامز أشار إلى أن كلمة الثقافة هي إحدى الكلمات الأكثر تعقيدًا في اللغة الإنجليزية، لأنها تحمل الكثير من المعاني التي تتغير مع مرور الزمن. ومن بين المعاني الحديثة للكلمة أنها: 1 – الثقافة العليا والفن والحضارة 2 – تهذيب النفس 3 – المنتجات الثقافية كالكتب والأفلام 4 – الحياة الكلية لمجموعة من الأفراد”.
فهل تُخرج مثل هذه التعريفات من قرأ كتابين من دائرة المثقف، أو هل يخرج تعريف عبدالله العروي الذي قدمه الشيخ، أو تعريف المعجم الفرنسي لاروس من قرأ كتابين من دائرة المثقفين؟!.
ولو تساءلنا عن مفهوم رجل الدين، فهل يمكننا أن نقدم له تعريفًا جامعًا مانعًا، أم سنقع في ذات الإشكالية التي وقع فيها الشيخ أحمد، مما يجعلنا نقول أن تعقيد وصعوبة تعريف مصطلح رجل الدين وعدم دقته وعدم إحاطته بالسيرورة التاريخية لمن يقوم بتسيير شؤون المقدس حسب تعريف عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل غوشيه، والاختلاف في دوره ووظيفته الاجتماعيَّة يمكّننا من إخراج الشيخ أحمد سلمان من دائرة رجال الدين؛ لأننا حدّدنا أو تخيرنا تعريفًا واحدًا او اثنين من بين عشرات التعريفات؟.
من هذه المقدمة ننطلق للمحور الأول الذي انطلق منه الشيخ في معالجة مفهوم المثقف، وذلك بعرض النتائج والمواقف القائمة على الانحياز ضد المثقف، وعرضها على مقدمته النظرية التبسيطية، إن لم أقل السطحية، نظريًا ومعرفيًّا، وبالتأكيد فلسفيًا، لأن مفهوم المثقف مفهوم فلسفي بالدرجة الأولى، إذا اعتبرنا الفلسفة هي علم المفاهيم:
المحور الأول: صفات المثقف:
الصفة الأولى / المشاركة في عملية الإصلاح الاجتماعي: وهنا نجده يختزل تشكّلات المثقف بتحديده في قالب واحد رغم أن السيرورة التاريخيَّة والتحولات الاجتماعيَّة أنتجت أنماطًا مغايرة للمثقف، فرغم جدّة المصطلح إلا إن بعضًا من الباحثين يشيرون لإمكانية استخدام المصطلح في قراءة واقع المجتمعات ما قبل ظهور المصطلح في نهاية القرن التاسع عشر، وهو ما يشير إليه جيرار ليكلرك في كتابه “سيسيولوجيا المثقفين”، وهنا نجد ما يشكل تخبطًا منهجيًا أوليًّا عند الشيخ أحمد سلمان، فاتساع التعريفات، وعدم قابلية مفهوم المثقف للتحديد الدقيق، كما أشار لذلك في المقدمة، يجعل من المستحيل اختزال المثقف ضمن قوالب نظرية سابقة ومتعالية على السيرورة الاجتماعية والتجربة التاريخية لهذا النمط من الفاعلين الاجتماعيين.
إضافة لذلك فإن تحديد مفهوم ما لا بد أن يؤكّد على ما أسماه عادل ضاهر في كتابه “الأسس الفلسفية للعلمانية” النواة السيمانتية الجوهرية للمفهوم، وما يعنيه بذلك أن تلك النواة هي “السمات الأبسط للمفهوم ذات الأسبقية المنطقية على كل سماته الأخرى، إنها المكونات الأساسية للمفهوم، إنها ما نشتق منه كل سمات المفهوم الأخرى”. فهل صفة المشاركة في عملية الإصلاح الاجتماعيّ تشكل نواة سيمانتية تمكّننا من تحديد مفهوم المثقف، أم هي صفة مشتقة من خلال واقع التجربة التاريخية؟!.، بمعنى آخر هل هذه الصفة تسلب من المثقف صفته تلك وتجرده منها، أم أنها تنتج شكلًا مغايرًا للتصور المرتجى للمثقف عند الشيخ؟ وهذا ما يؤكّد عليه بقوله إنها تنتج مثقفًا ممسوخًا، أي أنه ما زال مثقفًا، ولا يمكن استبعاده من دائرة الثقافة. فهو مثقف لكنه مثقف ممسوخ؛ لأنه لم يحقّق الصفة المتوخاة والتي جعلها الشيخ أساسًا لمحاكمة المثقف.
ويقدم في ذلك ثلاثة نماذج للمثقف الممسوخ. تلك النماذج هي:
1 – المثقف الاستعراضي:
وهو الذي لا يحمل هم الإصلاح الاجتماعيّ، ولا يمتلك رؤية إصلاحية بل مجرد استعراض لثقافته، ودلّل على ذلك بأمثله على حديث المثقف عن سيجارة سارتر (غليون يا شيخ)، وسم سقراط، شمعة كونفوشيوس، طاحونة دونكيشوت. ثم انتقل للفضاء الجغرافي للمثقف، وهو المقهى، مذكّرًا بالجانب السلوكي في الحياة الثقافيَّة، رغم أن المقهى لم يرتبط اجتماعيًّا بالثقافة في مجتمعنا، بقدر ما بات مكانًا للقاء أي تشكيل بشري ومن أي نمط كان، بخلاف ما حدث في باريس تحديدًا، ومن ثم عرّج على ذكر تعقيد المصطلحات التي يستخدمها المثقفون في مجادلاتهم المعرفيَّة. ومن ذلك يخلص لكون المثقف يعاني مرضًا أسماه النرجسية الثقافية، بالاعتماد على عبد الإله بلقزيز في كتابه “نهاية داعية”.
وأود التذكير أن تعقيد المصطلحات التي يستخدمها المثقف ليس تعقيدًا متعمدًا دائمًا، فهناك تعقيد يرتبط بصعوبة الموضوع، وبأنه يحمل معه عدته الثقافية وأدواته المعرفية، وهذا ما أشار إليه مرارًا محمد أركون بكون اللغة العربيَّة فقيرة جدًّا من ناحية المصطلح في مجال العلوم الإنسانية مقارنة بما يحدث في اللغات الأوروبية، مع التذكير أن المصطلحات المستخدمة في أحاديث المثقفين اليوميَّة ليست بتلك الصعوبة التي يشير إليها الشيخ، فجلها مستخدم بكثرة في الدراسات، مما يجعلها مفهومة تمامًا بالنسبة للمثقف فقد أصبحت مصطلحات شائعة جدًّا في مجال الدراسات.
2- المثقف الظلامي:
وهو الذي ليس له دور غير النقد، نقد الظواهر، نقد الأفكار، نقد المؤسسات، نقد الأشخاص، وإن لم يجد ما ينتقده انتقد ذاته حسب كلام الشيخ.
3- المثقف الانتهازي:
من يرفع راية الإصلاح، ولكن بمجرد أن يحصل على مكاسب شخصيَّة، يلقي بهذه الراية ويرفس الثقافة. مثقف يتاجر بثقافته للوصول لمآرب شخصية، وليس للوصول لحالة الإصلاح الاجتماعي.
يتضح من خلال النماذج السابقة أن الشيخ أحمد سلمان جعل من الإصلاح الاجتماعي نواة سيمانتية جوهرية لمفهوم المثقف، وبعيدًا عن كونه اختزل مفهوم المثقف، وحدّده بدوره الوظيفي في الإصلاح الاجتماعيّ، وهو ما ارتبط بالفلسفات التي جعلت همها وانشغالها الأساسيّ تغيير العالم بدلًا من تفسيره كالماركسية مثلًا، فإننا يمكن أن نستخدم أسلوبه ونطبّقه على رجل الدين أيضًا.
فالفقيه المشغول والمنهمك في استنباط الأحكام الشرعية، والذي لا يمتلك دورًا اجتماعيًا خارج جدران الحوزة الدينية، وكتب علم الأصول، والبحث في صحة الأسانيد، وموثوقية الروايات، وترجيح رواية ما في حال تعارض الأدلة، ولا يحمل رؤية اجتماعيَّة للإصلاح، سيكون فقيهًا ممسوخًا، مما سينتج بالتالي نماذج ثلاثة للفقيه، تلك النماذج هي: الفقيه الاستعراضي، الفقيه الظلامي، الفقيه الانتهازي. ومن خلال هذا التحديد فإن الشيخ يحذف جزءًا كبيرًا من تاريخ المعرفة والثقافة، ويختزل المنجز الثقافي في جوانبه الوظيفيّة، وما تؤدّيه اجتماعيًّا كالماركسيين تمامًا.
وبالعودة للنماذج الثلاثة التي طرحها الشيخ في حال غياب الدور الإصلاحيّ نجده يتحدث عن النموذج الأول، والذي يخلص لنتيجة قائمة على انحياز فجّ ضدّ المثقف، وذلك بوصفه للمثقف بكونه مريضًا نفسيًا بمرض أسماه النرجسيّة الثقافية، وحدّد الفضاء الثقافي للمرض بالمنطقة الجغرافية العربيَّة. والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا: لماذا ينتشر هذا المرض بين المثقفين العرب تحديدًا كما يؤكّد، وليس بين غيرهم من الشعوب، رغم أن جان بول سارتر يشير إلى أن الانتقادات الموجهة للمثقف هي ذاتها في كل مكان، والإجابة هي أن المثقف في الفضاء العربي لم يحظ بالتقدير والاعتراف بعد، بل تعرّض طوال عقود لعملية منظمة ومتعمّدة من التهميش من قبل السلطة السياسية الشمولية والإيديولوجية، وقرينتها الدينية، ومن قبل سلطة السائد اجتماعيًا، والمختطف كليًّا من قبل الفقيه، وخطيب المنبر في المسجد أو الحسينية، ممّا يجعل المثقف يُعلي من قيمة الذات في مواجهة عملية الاستبعاد تلك كتأكيد على الوجود، وتأتي محاضرة الشيخ ضمن سياق الاستبعاد والتهميش، فالمثقفون كما يشير أدوارد سعيد لا يمثلون “حركة اجتماعية فقط، بل أسلوب حياة خاص، وهو أسلوب مزعج منفّر”. وبالتأكيد سيكون منفّرًا أكثر حين يضع نفسه كناقد للحقيقة اللاهوتيَّة النهائية التي يقدّمها رجل الدين أو كناقد للتشريعات والقوانين (الأحكام الفقهية) التي تقف بمعزل عن التطور الحضاري للبشريَّة والتأكيد على حقوق الإنسان والذي وجد صيغته غير المكتملة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولو سلّمت جدلًا بكون النرجسية الثقافيَّة مرضًا نفسيّا عند المثقفين العرب، فيمكن علاج ذلك المرض كأيّ مرض آخر؛ ذلك لأنّ مرضهم وليد ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية معينة، ولم يتلبّس بلباس الدين، بل إنّ من الاتجاهات الثقافيّة من أعلت من شأن الثقافة الشعبية على حساب الثقافة النخبوية، المتهمة بكونها أداة من أدوات الاستغلال والهيمنة عند الطبقة البرجوازية. ولكن المشكلة الحقيقية هي حين تصبح النرجسية دينًا، وتجد تأصيلها في روايات “المعصومين” وتواقيع الإمام الغائب، فكيف يمكن علاجها؟، ولا أخال الشيخ لم يطلع على الأدبيات التي تجعل للفقيه الولاية المقيدة، أو المطلقة التي جعلت للفقيه ما للإمام تشريعيًّا، وإن لم يكن له ما للإمام تكوينيًّا، وبأنهم، أي الفقهاء نواب عامون عن الإمام المهدي المنتظر، وبأنهم ورثة الأنبياء، وهم حجج الله على الخلق وعلى العامة أن يتبعوا من حقق الاشتراطات المعرفية والأخلاقية المحددة في “من كان منكم من أمتي…..”.
ومن باب الترجيح والتغليب والموازنة فإن النرجسية الثقافية ليست أسوأ كثيرًا من الاصطفائية الدينية، فإن كانت الأولى مرضًا نفسيًا، فالاصطفائية الدينية مرض مركّب من عدة أبعاد. البعد النفسي أولًا، والذي يجعل من الذات أصلًا وأساسًا متضخّمًا يلغي بوجوده وجود الآخر، والبعد الأخلاقي ثانيًا القائم على التمييز ضد الآخر، واستبعاده على أسس دينية ومذهبيَّة، وأخيرًا البعد المعرفي؛ ذلك أنها تعطي لجماعتها الدينية وأعضائها امتيازًا معرفيًّا وتدعي القبض على الحقيقة المطلقة، والتي تجرّد الآخرين من تلك الحقيقة بشكل كامل.
وقد أشار الشيخ من خلال استعراضه للنماذج الثلاثة أن الإصلاح الاجتماعيّ شرط لا بد منه في تحديد من هو المثقف، وقارنها بالعدالة كشرط للتقليد، وهنا مقارنة غير دقيقة قط، فالعدالة شرط للتقليد حدّده الفقيه لنفسه، واشترط ذلك على من يتصدّى للمرجعية الدينية. ينطبق ذلك على جميع من يتصدّى للمرجعية الدينية بمن فيهم من حدد الشروط في رسالته العمليَّة. أما الإصلاح الاجتماعي فهو ليس شرطًا مطلقًا عند المثقفين، والشيخ هو من حدّد هذه الصفة كنواة سيمانتية، واعتبرها أساسا ومنطلقًا في تحديد المثقف، وليس له أن يلزم المثقفين كافّة بما لم تلتزم به جميع تشكّلات المثقّف، فالمثقف العضوي عند غرامشي ليس هو المثقف الرسولي أو المثالي عند جوليان بندا، وبالتأكيد ليس هو المثقف النقدي وليس هو المثقف الذي حدّده عبدالله العروي بالتأكيد على المؤهل الأكاديمي دون النظر إلى دوره الاجتماعيّ والذي استشهد به الشيخ في المقدّمة، ولذلك نرى أن عملية اختيار ثلاثة تعريفات دون غيرها لم تسعف الشيخ في نتائجه وهذا أحد أشكال التخبط المنهجي الذي أشرت إليه سابقًا.
المثقف النقدي اعتبره الشيخ مثقفًا ظلاميًّا؛ لأنّ دوره حسب رأيه ليس إلا النقد، نقد الظواهر والمؤسسات والأفكار، وأخيرًا نقد الذات، والمفارقة أن العصر الذي وضع كلّ المسلمات والأفكار والمعتقدات والمؤسّسات تحت مشرط النقد سمّي عصر التنوير كما يؤكد الدكتور إبراهيم الحيدري في كتابه “النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة”، ويجيء الشيخ ليصف من يتبنّى الفكر النقديّ بالمثقّف الظلاميّ. الفكر النقدي والذي اعتبره مازوخية ثقافية كنوع من أنواع الأمراض. والذي استعاره من معجم الطب النفسي ليحدّد المثقف من خلال الاصطلاح المرضي -الفلسفي كمريض بإحدى أشهر الاضطرابات السلوكية أو الأمراض النفسية.
هذه النقطة التي اعتبرها الشيخ مجالًا سانحًا لنقد المثقف، واستخدم أسلوبًا ساخرًا، ليست سوى امتياز للمثقف، وسمة تجعل المثقف يقف على خلاف مع بقية الفاعلين الاجتماعيين، فالمثقف كما تحدّده النظرية النقدية عند أقطاب مدرسة فرانكفورت أعلت من شأن النقد لدرجة اعتبرت نقد الأفكار ليس إلا نقدا للممارسة، باعتبار أن العلاقة بين الأفكار والممارسة علاقة جدلية، ولا يمكن تناول جانب الأفكار دون تناول الجانب الآخر من الجدليّة وهي الممارسة.
ولعل قدرة المثقف على العودة النقدية الدائمة على ذاته، وأفكاره، وتفكيك خطاباته المعرفية، هي ما تجعل الثقافة تتّسم بالحيويّة والديناميكيّة الفكريَّة والقدرة على الاستمراريّة والتجدّد، ولعل كتبًا ثقافية كثيره، كتبها مثقفون، ساهمت في تلك العودة النقدية، ومن أمثال تلك الكتب، كتاب علي حرب “أوهام النخبة أو نقد المثقف”، أو كتاب “خيانة المثقفين” لجوليان بندا، أو كتاب “صور المثقف “لإدوارد سعيد، تقدّم دلالة كاشفة في هذا المجال، فالمثقف وحده من استطاع أن يخضع أفكاره وخطاباته للنقد دون أن يتنكر لكونه مثقفًا، يسهم في صناعة الوعي والثقافة وتجديدها.
والنّقد بالتّأكيد ممارسة تقوم على تفكيك خطابات الحقيقة وأدوات إنتاجها ومآلاتها وتطبيقاتها، وهذا ما يقع في الضفة المقابلة لما يبتغيه رجل الدين من تكريس الحقيقة الواحدة والنهائية التي قيلت مرة واحدة وللأبد، وما أشار إليه الشيخ في المحور الثاني من كون أحد أشكال العلاقة بين المثقف ورجل الدين هي علاقة الصدام، فهو يأتي في سياق الأسس الإبستمولوجية والمنطلقات المعرفيَّة التي ينطلق منها كلاهما، فرجل الدين ينطلق من أساس أنه ناطق باسم الحقيقة المقدّسة الإلهيَّة، المودعة في مدونات نصيَّة، اعتبرت صحيحة، أو المعتبرة على الأقل، وبأن دوره ليس سوى استعادتها وتكريسها اجتماعيًّا، وما عليه سوى تفعيل أدوات إنتاجها وتكرارها، والتأكيد عليها مرة تلو مرة،
أما المثقف فينطلق من أساس مغاير، فالمثقف يقف من الحقائق كلها موقفًا ناقدًا، متشككًا، ارتيابيًا، عقليًّا، وهذا ما يجعل الصدام مسألة حتميَّة، ولا تسعفنا بعض الشخصيات المتديّنة التي صنّفت ضمن دائرة الثقافة كالنموذج الوحيد تقريبًا وهو السيد محمد باقر الصدر كما يشير الشيخ أحمد، ذلك لأن تلك الشخصيَّات استخدمت أسلوبًا ثقافيًّا في الطرح، فبمقدار ما تحضر الثقافة الدنيوية تغيب المعتقدات الدينية، وبقدر ما تحضر هذه تغيب تلك، لأن طبيعة الأولى تختلف تمامًا عن طبيعة الثانية، وتلك النماذج لا تفعل شيئا سوى الانتقال بين الجانبين مع تجنب الاصطدام أو التداخل الذي يؤدي للتعسف في التوفيقية أو التلفيقيّة إذا استخدمنا حكمًا للقيمة.
أما في نموذجه الثالث، وهو المثقف الانتهازيّ، فيحدّده بكونه من يحمل راية الإصلاح، ولكنه وبمجرد أن يحصل على مكاسب شخصيَّة يرفس الثقافة حسب تعبيره، ولا أظن أن الانتهازية صفة تقتصر على المثقفين دون غيرهم من الفاعلين الاجتماعيين، فرجل الدين والفقيه والإعلامي وأستاذ الجامعة والمعلم والطالب ورب الأسرة والفلاح، كل أولئك يمكن أن يكونوا انتهازيين، يستخدمون وظائفهم من أجل الوصول لمآرب شخصيَّة، ولا علاقة لذلك بالثقافة أو مفهوم المثقّف، إلا أن يكون الشيخ استخدم الانتهازية كإفراط في تهميش وأبلسة المثقف، كما يمكننا أن ننجرّ لأسلوب المماحكات السجاليّة ونقول إن الانتهازية تكثر بين رجال الدين؛ لأن الطبقة السياسية تدرك مدى تأثيرها في المجتمعات وقدرتها على صياغة الوعي الجمعي مما يجعلها هدفًا للإغراء بالمال والجاه.
الصفة الثانية:
احترام المثقّف للتخصّص. وقد أشار الشيخ أن المثقّف مطّلع كبير على العلوم والدراسات، ولكنه سطّحي وليس كالمتخصّص، وما يتعجّب منه أشدّ العجب هو تدخّلات المثقف في الدين، ودلّل على ذلك بتناول المثقّف للشعائر الدينيّة كمثال للتدخلات.
في هذه الصفة وهي احترام التخصّص، نجد عدم وضوح آخر وقع فيه الشيخ دون أن يدرك مدى هول الوقوع، وهو الفرق بين المختصّ والمثقّف، وما ليس واضحًا عند الشيخ هو إجابة السؤال التالي: هل المختص في مجال ما مثقّف أم لا وليس العكس؛ لأن المثقف لم يدّع أنه مختص في كل المجالات؟ فمثلًا حين أتناول التأثير الثقافي لحكم فقهي ما ككراهة الزواج من الأكراد، فهل أنا أتدخل في اختصاص آخر وأستنبط حكمًا فقهيًّا يقع ضمن دائرة عمل الفقيه، أم ما زلت ضمن دائرة الطرح الثقافيّ؟! وفي هذا يشير جان بول سارتر في كتابه “دفاع عن المثقفين” بقوله: “لو أردتم مثالًا على هذا التصوّر الشائع للمثقّف، لقلت إنّ صفة المثقّف لا تطلق على علماء يعملون في حقل انشطار الذرة لتطوير أسلحة الحرب الذريّة وتحسينها: فهم محض علماء، لا أكثر ولا أقل، ولكن إذا ما انتاب هؤلاء العلماء أنفسهم الذعر لما تنطوي عليه الأسلحة التي تصنع بفضل جهودهم وأبحاثهم من طاقة تدميريّة، فاجتمعوا ووقّعوا بيانًا لتحذير الرأي العام من استخدام القنبلة الذرية غدوا من فورهم مثقفين”. ويؤكد السيمائي والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو هذا المعنى في حوار حين سئل عمّن هم علماء اليوم فأجاب: “هذه مفارقة. لكن حقيقة الأمر أنهم يميلون إلى أن يكونوا فشلة. نحن نعيش في عالم لا يعرف فيه الفيزيائيّ الحائز على جائزة نوبل شيئًا عن الأدب. ذات مرة أخبرت أستاذًا مرموقًا في الأدب الفرنسي بإحدى جامعات الولايات المتّحدة الأمريكية بأننا كدنا أن نصل إلى ثقافة تايلورية، أي أنّ يكون كل فرد منا قادرًا على فعل شيء واحد فقط. سألني.
- إمبرتو. ما الثقافة التايلورية؟!
جيد. هذا هو المعتاد، فهو لا يخرج تقريبًا من نطاق تخصصه!.
والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا، هل خرج الشيخ أحمد في محاضرته عن نطاق تخصّصه ومعرفته الدينيَّة أم لا؟!، هل تسعفه الأدبيَّات الدينيَّة والكتب كالمكاسب واللمعة الدمشقية والعروة الوثقى في تحديد مفهوم المثقف والتعريف بدوره وتاريخه، أم يسعفه علم الرواية والدراية أم بإمكانه شرح المفهوم بالاعتماد على باب مباحث الألفاظ؟ بالتأكيد لا، فحين يطرح الشيخ مفهوم المثقف ويحاول تحديد دلالاته، فهو يستخدم مجموعة من الاختصاصات للوصول لتعريف وتحديد هذا المفهوم، فبين اللغة وبين الفلسفة وبين علم الاجتماع، مع إشارة مختزلة لتاريخ المصطلح وظهوره في فرنسا أثناء قضية دريفوس في نهاية القرن التاسع عشر يحاول تحديد المصطلح، وما يعنيه ليخلص لنتيجة ليست لها تماس مباشر باختصاصه الديني بشتى تفرّعاته، كما أنه يشير منتقدًا المثقفين في طرحهم لقضية الشعائر الدينية واعتبر ذلك تدخلًا في مجال الدين رغم أن دراسة الشعائر الدينية ليست ضمن اختصاصات الدين حصرًا، بل يمكن دراستها من خلال التاريخ أو علم الاجتماع أو علم النفس أو الأنثروبولوجيا، بل يمكن دراستها حتى من منحى آخر تمامًا يبدو بعيدًا عن موضوع الشعائر، وهو منحى علم وظائف الأعضاء الذي يشير للتأثيرات الفيسيولوجية مثلًا أثناء ممارسة الطقوس أو تأثير الطقس الديني على نشاط الدماغ البشري.
الصفة الثالثة:
قابلية المثقف للنقد، أي أن يعطي للآخرين الحق في نقد أطروحاته، وهنا يشتق مصطلحًا وهو (المثقف المعصوم) وهذا اسقاط عقائدي ومغالطة تاريخيَّة واضحة؛ ذلك بأنه استعار من الحقل الديني مفهومًا عقائديًّا متعاليًا نشأ في القرن الرابع الهجري، وأسقطه على حالة دنيوية محض نشأت حديثًا دون أن نتشدّد في الصرامة المنهجيَّة ونعتبر المثقف ولد في القرن التاسع عشر فقط، وليس كمفهوم العصمة الذي نشأ في مجال المجادلات الكلامية حول النبي والأئمة عند الشيعة دون أن يخرج من ذلك المجال فمفهوم العصمة مفهوم كلامي محض لم يخرج من دائرة الدين نحو الاستخدام الدلالي في إطاره الدنيوي العلماني كما حدث لكلمة جهنم مثلًا.
المثقف بحسب رأي الشيخ أحمد أعطى لنفسه الحق في انتقاد الله والقرآن، ولكنه اعتبر ذاته لا تمس، رغم أنه في سياق آخر أشار للجهود المعرفيَّة التي قام بها الاستشراق في توسيع دائرة اللا مفكر فيه في التراث الإسلامي كما فعل نولدكه في كتاب “تاريخ القرآن”، لكنه اتخذ موقفًا مناوئًا متشدّدًا عند حديثه عن المثقف في السياق العربي الذي ينتقد القرآن حسب رأيه. أما وإنه قد اعتبر أن المثقف صيّر ذاته ذاتًا لا تمس فهذا صحيح بالتأكيد وما ينبغي أن يكون بالفعل، ذلك لأن القرآن ودراسته – إن لم نقل انتقاده – موضوع، بينما المثقف ذات، ولا ينبغي الخلط أثناء ممارسة الفعل النقديّ بين الذات والموضوع، فلك أن تنتقد المثقف، وتفكك خطاباته، وتبحث في النتائج الكارثية لدراساته وأبحاثه وتطبيقاتها، وهو ما فعله كثير من المثقفين، ليس في نقدهم لأطروحات المثقفين الآخرين فحسب، بل في وضع أفكارهم السابقة والمنطلقات النظرية التي انطلقوا منها سابقًا موضع النقد والتفكيك والتجاوز أيضًا، ولعلنا نجد في أفكار المفكر الفرنسي جاك دريدا التقويضية شكلا متطرفًا من التفكيك والنقد القائم على الهدم، دون أن يقدم بديلًا للبناء لأنه سيكون هدفًا للتفكيك مرة أخرى.
في ختام المحاضرة تقريبًا يقدّم الشيخ أحمد في سياق عرضه لأنماط العلاقة بين المثقف ورجل الدين تأكيدًا على أهمية العلاقة التكاملية بين الطرفين من أجل هدف مشترك وهو الإصلاح الاجتماعيّ. الهدف الذي اعتبره في البدء أساسًا لعمل المثقف، ويؤكّد أن عمليَّة الإصلاح الاجتماعيّ ليست حكرًا على فئة معينة، وهذا صحيح بالتأكيد، ولكن السؤال الذي سيتبادر حتمًا للذهن هو، ما وظيفة المثقف إذا؟. هل إخراج الصفة الأولى من كونها نواة سيمانتية للمثقف تؤدّي حتمًا لأنّ لا يكون للمثقف أيّ دور في عملية الإصلاح الاجتماعي؟!
بالتأكيد لا.
المجتمع هو الفضاء العام الذي يمارس فيه الفاعلون الاجتماعيّون أنماط نشاطهم، والفاعل الاجتماعيّ في سيرورة عمله يحاول أن يؤسّس لأفعاله ولخطاباته وأفكاره سلطة رمزيَّة أو حقيقيَّة، ينطبق ذلك على النشاط السياسيّ كسلطة حقيقيَّة والنشاط الثقافي والنشاط الديني كسلطة رمزيَّة، على ما بين هذه الأنشطة من الاختلاف في الوسائل والأهداف المبتغاة، وما يهمني هنا هو النشاط الثقافي، فالمثقف كفاعل اجتماعي يشارك حتمّا في عملية الإصلاح الاجتماعي، ولكنه ليس الإصلاح بالمعنى المتعارف عليه، والذي يستهدف تحسين أحوال الناس المعيشية واليومية، بل الإصلاح الاجتماعي للمثقف ذو طبيعة ثقافية ومعرفيّة ونقديَّة حتمًا، لأنّ دور المثقف يتلخّص في الدرجة الأولى في صياغة الوعي والفكر وإنتاج المعنى الذي لا ينفصم عن الفضاء الاجتماعيّ وأي دور يزيد عن هذا للمثقف هو زيادة إلحاقيّة، لا يؤدي عدمها لفقدان المثقف دوره ووظيفته ومكانته، أو أن يتحوّل لمثقف ممسوخ كما يقرّر الشيخ منذ البداية، والمثقف الممسوخ هو تحديدًا المثقف الذي يتخلّى عن وظيفته النقدية وتوسيع دائرة المفكر فيه، ويكتفي بتكريس وعي المجتمع وترسيخ مألوفاته وأفكاره السائدة ونمط تفكيره مرة تلو مرة تلو مرة مما يؤدي لحالة تكرارية نكوصيَّة لا علاقة لها بالإبداع، الإبداع كشرط من شروط المجتمعات الفاعلة.
هذا ليس ردا على الأخ مظاهر فالمقال طويل ولم أقرأه. لكن أحببت أن أشيد بالشيخ أحمد السلمان لما يقوم به في خدمة المذهب وأدعو الله أن يوفقه وأن يكثر من أمثاله. وأتمنى المثقفون يقومون بنفس الدور وهم قادرون على ذلك خاصة مع ثقافتهم الواسعة.
الشق الأول نسخة من النظرية النسبية .
هدرة مقدرة مع احترامي
مقال طويل عميق المحتوى
باختصار بسيط جدا
من يصلون لمراتب علمية مروا بمراحل تمحيص عن طريق امتحان القبول وامتحانات المسنويات الدراسية المختلفة وامتحانات والإجازات العلمية الكثيرة
.
امت تقارن بين مدرسة تسلقية يتطفل عليها كل من أراد دون فحص للقدرات العقلية والمهارات التحصيلية كما في المؤسسة الدينية وبين مؤسسة تعليمية على مستوى العالم بنت الحضارة والعلوم التي تراها اليوم بجلالها وعلمتها
.
.
خير لهم ان ينضبطوا ويلزموا الحائط لمدرسة تحفيظية تلقينية
ضررها اكثر من نفعها لا تستطيع حتى ان تعيش نفسها بل جبايه
مقال جيد وقوي ورد ذكي
في النتيجة وفق هذا الطرح أن هناك تكامل بين المثقف و رجل الدين حتى وإن ادعى الشيخ أو الأستاذ مظاهر أنهما يشكلان واقعيا طرفي نقيض، لأن المثقف ينتقد ويهدم والشيخ يبني وهذا ما تحتاجه الحياة ويحتاجه الجمهور
أحسنت و أظن أن الرد كافيًا وافيا ، و حقيقة لم أستمع لما قاله الشيخ السلمان ، لأسباب كثيرة و من ضمنها كما تفضلت تعالي رجال الدين و برجوازيتهم المقيتة و استحقارهم لعقول الناس و بالخصوص بالإنسان المثقف و أي شخص يفكر و يحترم عقله ، و كذلك ركود تفكيرهم و يلوكون القول إلى ما لا نهاية ، و ادعاء امتلاك الحقيقة و إقصاء الآخر ، و هذه السمة مع الأسف منعكسة على غالبية مجتمعاتنا ، لأن كما نعلم أن المجتمع الصحي مجتمع متعدد ، أستثني بعض إطروحات التحديث الديني و النظرة الانفتاحية فيه و التعددية الدينية و الثقافية.
و المشكلة الكبيرة بالنسبة لي في أساس طرحه و الذي يريد من خلاله أن يجر النار إلى قرصه حيث يلبس نفسه كرجل دين التكامل في هذا الدور الإصلاحي الإجتماعي ، و هذه الرسالية الوعظية
مع التحية