[26] قبس من سماء رمضان

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{وَلا تَستَوي الحَسنةُ ولا السّيِّئةُ اِدفَعْ بِالتي هيَ أحسنُ فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حميم♧ وما يُلقّاها إلا الذينَ صَبروا وَما يُلقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظيم} فصّلت/34-35:

تتجلّى في هذه الآية الكريمة قيمتان عظيمتان من قِيم الحياة التي أركزها القرآن الكريم، وهما: قيمة العدل وقيمة الإحسان.

فأمّا قيمة العدل ففي قوله: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة). ففي الجملة انتفاء لحصول التسوية بين الحسنة والسيئة، والحسنة يعبّر بها عن كل ما يسرّ من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله. ومنها الحُسْن، وهو كل مبهج مرغوب فيه، وذلك على ثلاثة أضرب: مُستحسَن من جهة العقل، ومُستحسَن من جهة الهوى، ومُستحسن من جهة الحِسّ. والحُسن يقال في الأعيان والأحداث، والحَسنة

وصف واسم للأحداث، وأمّا الحُسنى فالأحداث دون الأعيان. وقد تعارف العامّة على وصف المُستحسن بالبصر بالحُسن، ومنه امرأة حسناء وحُسّانة، ورجل حسَن وحسّان.

وأمّا السيئة، فمن السّوء، وهو كل ما يغمّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية، من فوات مال وجاه وبنين. والسيئة هي الفعلة القبيحة وهي ضد الحسنة.

والحسنة والسيئة ضربان: أحدهما بحسب اعتبار العقل والشرع نحو: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها). وحسنة وسيئة بحسب اعتبار الطبع، وذلك ما يستخفّه الطبع وما يستثقله، نحو: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه).

ومكمن العدل في الآية، هو عدم المساواة بين الحسنة والسيئة، فالعدل أن يكون المحسن في منزلته التي استحقّها باكتساب حسناته، ويكون المسئ في المقام الذي استحقّه بسوء عمله. وتحضر لطيفة، وهي أنّ السيئة غالبا ما تكون مقصودة، وبذلك تختلف عن الخطيئة التي يغلب عليها عدم القصد، بل تأتي عرَضا. وأمّا الإثم فهو الفعل المبطئ للخيرات، والذنب المُستَحق للعقوبة، وكلها تعني معصية الخالق سبحانه وبحمده.

وقد حصر كثير من المفسرين معنى الآية في أنّ الحسنة هي دعوة الرسول صلى الله عليه واله وصحبه وسلم إلى الدين الحق، والسيئة فعل الكافرين المعندين لدعوته. فبالتالي، لا يكون إقبال المصطفى عليه الصلاة والسلام واشتغاله بالحسنات والدعوة إلى الله كإدبار الكافرين وسفههم وجهلهم، وقِس على ذلك فعل أهل الحسنات من أمته أمام المسيئين منهم، لا يستويان!

ولمّا كانت الإساءة تشغل النفوس بالانتقام، والدفع للسيئة والإساءة أمر طَبْعي يقع من الإنسان، جاءت الآية لتقدّم قيمة جليلة هي قيمة الإحسان : (ادفع بالتي هي أحسن). إذ يكون هنا دفع المُحسن لعلوٍّ سلوكيّ أساسه كظم الغيظ، وبناؤه الصبر على الأذى، وجَنيْهُ الخلاص لله بالإحسان. فالإحسان هنا يفوق العدل، إذ العدل هو أن يعطي ما عليه ليأخذ ما له، وأمّا الإحسان فهو أن يعطي أكثر ممّا عليه، ويأخذ أقلّ ما له. وهو ندبٌ وتطوّع، وتحرّي العدل واجب.

ومن العجيب أنّ من معاني الدّفع والدُّفعة المطر، والدِّفاع من السيل، فانظر إلى المحسن لمن أساء له كيف يغسل روحه من غضبيّة الطين وشهوة الانتقام، فيَخلُص في نفسه الجوهر، وتعلو روحه على الواردات الخارجية لقوتها بالإيمان.

بل هذا الدفع عندي، هو دفع لها للأعلى بمزيد تنقية وتخلية، حتى تستحقّ التحلية. ويكون لها المسئ في مقام (وليّ حميم). والوليّ يستحق الحماية، والموالاة، والحميم من كان في القرب كقرب حَموة الدم وسخونته في البدن. فأي نفس هي التي تحيل المعادي حبيبا محميا آمنا. إنها ذات الحظّ العظيم، ولا أعظم من الثواب الممنوح بلا تعيين جائزة لهذا المحسن. فسمّى الجزاء حظّا عظيما، استحقه صاحب نفس عظيمة بالإحسان. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان!

والله أعلم

_______________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×