[25] قبس من سماء رمضان

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{غافر الذنبِ وقابل التَّوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} غافر/3:

لمّا ذكر الله سبحانه أنّ كلامه تنزيل من عنده، جاء التفصيل في صفات الرب المنزّل جلّ في علاه. فهو (غافر الذنب)، والغفر والغفران السِّتر، ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي يكون باقيا موجودا فيُستر. ولمّا كان الذنب هو فعل كل ما يُستَوخم عقباه اعتبارا بذنَب الشيء، فيكون الذنب له أثر يلزم العقوبة، ويعرف به صاحبه، فجاءت صفة (غافر) في حق ربنا -سبحانه وبحمده- ساترة لأثره، مخلّصة صاحبه من عقوبته. والغفران هنا كما يقول العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- واقع للمؤمن وللكافر ما لم يمت على كفره. وفي هذه الآية رجاء عظيم، إذ المغفرة هنا غير مشروطة بالتوبة، وإلا لما عُطِف عليها ب (وقابل التوب). فعطف الشيء على نفسه في اللغة محال، فالغفران هنا واقع قبل التوبة. وقد ذُكر بأنّ هذا قد يكون ببركة طاعة سابقة على الذنب، أو طاعة لاحقة به ثوابها هو أعظم من الذنب. وفي هذا عظيم كرم ومنّة من الله سبحانه.

(قابل التّوْب) والتوب هو ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ الاعتذار. ويذكر الراغب في الاعتذار ثلاثة أوجه: إمّا أن يقول المعتذر لم أفعل، أو يقول فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسأت وقد أقلعت ولن أعود، ثم يتدارك العمل بطاعة، وهذه هي التوبة. ومن اللطيف أن تعلم أنّ قبول الله للتوبة من عبده المذنب هو منّ وفضل لا وجوب فيها. وبين الصفتين عظيم رجاء ورحمة لكل من قدّم ذنبا، وفيها مصداق لقوله : ( لا تقنطوا من رحمة الله) فمهما عظم الذنب، واستحال غفرانه في عين العبد، فهو في ميزان الغافر التواب ممكن المغفرة.

وحتى يبقى الميزان بين الخوف والرجاء في قلب العبد المؤمن، ولا تذهب نفسه مستهينة بالمعصية، متثاقلة عن التوبة، جاءت (شديد العقاب). والعقاب والعقوبة والمعاقبة كلمات اختصّت للعذاب، والعقبى والعُقب للثواب، والعاقبة على الإطلاق للثواب (والعاقبة للمتقين)، وعلى الإضافة للعذاب (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا).

والعقاب مجازاة تعقب العمل، وبذكرها يكون قد جمع بين العدل والفضل؛ عدل المجازاة، وفضل المغفرة. وهو ممتنّ بغناه وسعته (ذي الطّول) سبحانه. والطَّول الغنى والسعة، والفضل والمنّة. ومن تمام الغنى أن يكون مُنعما، وإنعامه هنا غفرانه. وكونها (ذي الطول) أتت بعد (شديد العقاب) فقد أعطت مزيد رجاء في رحمته ومغفرته سبحانه.

وهو بذلك ربّنا المستحقّ للتوحيد (لا إله إلا هو) رب متفرد بفضله، وكل شيء إليه منقاد (إليه المصير)، فالجملة الخبرية هنا، بخبر مقدّم أفادت حصر وتخصيص المرجع إلى الله دون سواه، سواء أكان مرجعا في الحياة كالتدبير والحكم والتقدير ونحوه، أو بعد الموت إذ كل شيء إليه مصيره.

فانظر إلى واسع فضل ربنا، وصفاته التي هي فيه لا تتغير ولا تتبدل، وسله القبول.

والله أعلم

_______________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×