العيش خارج المنزل الأول
حبيب الأسود
يقول الشاعر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى .. وحنينه أبداً لأول منزل
لا شك ولا ريب أن لمكان ولادة وترعرع الفرد منا قوة ارتباط مهولة مرتبطة بالوجدان؛ حيث حفرت ذكريات الصبا في الوعي واللاوعي بذاكرة كل منا ودياناً وأخاديد، يتم استدعاء بعضها بين الحين والآخر، وتتداعى لقطات تصور حياتك في الصبا وتذكرك بجيرانك وبمراحل التعليم العام وصور زملائك ومعلميك، وملاعب الصبا، والفعاليات والرحلات التي قمت بها، وكأنك تشاهد فيلما سينمائيا أنت البطل فيه؛ فتشعر بالنشوة كلما مرّت بخيالك لقطة سجلت فيها انتصاراً أو تفوقاً على بعض أقرانك! كما تشعر بعدم الارتياح عندما تأتي لقطة لم تحقق فيها ما تحب! وهذه اللقطات – سواء الإيجابية منها أو السلبية – تبقى محببة إليك لا تمل من مشاهدتها كلما تم استدعاؤها، فإذا ما قدر للمرء الابتعاد عن المكان الذي ترعرع فيه في صباه شعر بقيمة وأهمية هذه الذكريات التي تربطه بالمكان والأشخاص، وراوده الحنين بالعودة لها على الرغم من اختلاف نظرته لها حاليا؛ فالملعب الذي كان يراه عندما كان صغيرا واسعا جدا ما هو إلا زقاق ضيق، والأشخاص الذين كان يهابهم ويتجنب الاحتكاك بهم، ما هم إلا أناس وديعون طيبون؛ لا يختلفون عن باقي الناس، لكن قصر تصوره و إدراكه هو الذي عكس صوره.
لهذا لا نحبذ العيش خارج مسقط رؤوسنا؛ لاعتقادنا بأن ذلك يعني الانفصال التام عن ماضينا، وتناسي أجمل لحظات العمر، والابتعاد عن الأهل والأصدقاء إن لم يكن التنكر لهم!
وهذا اعتقاد ربما يكون صحيحا نوعا ما؛ حيث تحول بعد المسافة والارتباط بالعمل دون مشاركة أفراد مجتمعنا القديم بعض فعالياتهم أو مناسباتهم، وإذا قررنا المشاركة فعلينا تحمل بعض المشقة والعناء.
ويشبه انتقال الفرد من مسقط رأسه للعيش في مدينة أخرى مثل نقل أشجار النخيل من بيئتها إلى بيئة أخرى؛ فتظل هذه الأشجار فترة طويلة تحاول التغلب على الظروف الصعبة من:(تربة وماء وهواء وتغذية وعناية) كما تحاول التأقلم مع بيئتها الجديدة، وقد ينجح البعض منها، وقد يموت البعض الآخر، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإنسان إلا أن الموت هنا – فيما يخص الفرد المنتقل من مسقط رأسه إلى مدينة أخرى- هو موت معنوي لا حسي؛ حيث يفشل في التكيف مع بيئته الجديدة ويعود أدراجه من حيث أتى.
وقد تحكم ظروف الحياة أحيانا على كثير منا ترك مسقط رأسه والانتقال إلى العيش في مدينة أخرى، ربما للعمل أو لسبب آخر، وكلما طال بنا العيش في مدينتنا الجديدة ترسخت بعض جذور الولاء لها، وتكونت لدينا علاقات وصداقات اجتماعية جديدة، منشؤها، زملاء العمل، وأصدقاء زملاء العمل والجيران، وبعض أبناء مجتمعنا السابق القاطنون معنا في نفس المدينة، و هذه العلاقات والصداقات لا تصل في حميميتها إلى مستوى علاقاتنا وصداقاتنا الاجتماعية السابقة، إلا أنها ذات بعد اجتماعي معتبر، وتشترك مع البعدين المكاني والزماني في التهميش البطيء للصداقات والعلاقات الاجتماعية السابقة بالنسبة للفرد، أما أبناؤه المولودون في المجتمع الجديد فلا يوجد لديهم ارتباط بمجتمع أبويهم السابق إلا اللهم ما يتعلق بالروابط الأسرية، لذا فإنهم قد يواجهون بعض الصعوبات إذا قرروا الزواج نظرا لاغترابهم.
و للعيش في المدن الصناعية الحديثة بعض الفوائد منها: توفر فرص العمل، توفر فرص التطور وتحقيق الذات وتحقيق الأحلام، الشعور بالراحة لوجود الشوارع المتسعة مع توفر المجمعات التجارية الحديثة، وتوفر مواقف السيارات، وتوفر وتنوع وسائل النقل، وتوفر معظم الخدمات التي تحتاجها مع سهولة الحصول عليها، كما يمكن ممارسة كثير من الأنشطة والفعاليات التي ترغب القيام بها؛ نظرا لتهيئة البنية التحية لمعظم الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والترفيهية، كما تحصل على مستوى متطور من التعليم للأبناء، مع توفر خدمات صحية أفضل وميسرة، كما يساهم العيش خارج مسقط رأس الفرد في التخلي التدريجي عن بعض الارتباطات والالتزامات السابقة، والتي كان يؤديها في بعض الأحيان على سبيل المجاملة الاجتماعية أو مراعاة لخواطر الأهل والأصدقاء ، إضافة إلى الشعور بدرجة عالية من الاستقلالية.
وكما للعيش في المدن الصناعية الحديثة مميزات فإن لها أيضا سلبيات منها على سبيل المثال: غلاء المعيشة؛ حيث تكون أسعار المواد الاستهلاكية مرتفعة نوعا ما خاصة إذا ابتعدت المدينة عن العاصمة، الإدارية للمنطقة، كما يتولد لديك إحساس فيما يشبه العزلة؛ نظراً لقلة المعارف والأصدقاء في المجمتع الجديد؛ مقارنة بالعدد الكبير من المعارف والأصدقاء في مجتمعك القديم، بالإضافة إلى الأهل والأقارب. ويبدأ هامش العلاقات الاجتماعية مع الأصدقاء والجيران في التهميش قليلا قليلا؛ نظرا لانشغالك في عملك والاهتمام بتربية ورعاية أبنائك، أو لانخراطك في نشاطات أخرى، وهناك مخاطر صحية نظراً لارتفاع نسبة التلوث، وارتفاع نسبة الضوضاء وزيادة نسبة الجريمة المنظمة.
أحسنت يا زميلي العزيز وأصبت عين الحقيقة
بارك الله فيك