قصة “قوطي” غيّر المطابخ السعودية إلى الأبد كيف ثبّت سعيد أحمد المحروس توقيعه لأكثر من 62 سنة..؟
لقاء قصير في البحرين نقل التعليب من الجبنة إلى الزبدة
القطيف: صُبرة
في مكانٍ ما من العاصمة البحرينية؛ عُرضت عليه علبة معدنية محكمة الإغلاق. كانت علبة جبنةٍ. وكان العرض تسويقياً من مسؤول شركة أسترالية. ميزة العرض أن العلبة تحفظ الجبنة مدة طويلة جداً دون أن تتلف، ويمكن تناولها في أي وقت بعد فتحها. مع ذلك؛ لم يجد تاجر الأغذية القادم من القطيف؛ ما يُثير حماسته لبيع “قواطي جبن” في مسقط رأسه. لم تكن موائد الخليجيين عموماً، والقطيفيين خصوصاً، تعرف الجبن أصلاً. مشتقّات الحليب المعروفة هي اللبن والرَّوب و “الدهن/ الزبدة”، والقشطة “القَيْمَرْ” واللّبأ المعروف بـ “الإلبة”. أما الجبن؛ فهو غير ذي بال عند الناس.
لكنّ سؤالاً علق في رأس التاجر الشاب، هو: هل يمكن للشركة الأسترالية أن تفعل الشيء ذاته مع الزبدة كما فعلت مع الجبنة..؟
بصيغة أٌخرى: هل يمكن حفظ “الزبدة” بالطريقة ذاتها التي تُحفظ بها الجبنة..؟
جاءت إجابة المسؤول الأسترالي إيجاباً.. “نعم، ذلك ممكن”.
وهنا؛ أمسك سعيد أحمد المحروس، رحمه الله، بسلعةٍ استمرّت جيلاً بعد جيل، لتُغيّر منذ عام 1956، المطابخ السعودية، إلى الأبد.
المغامرة الأهمّ
بطريقةٍ ما؛ يُمكن القول إن زبدة “الكرسيّ الذهبي”؛ كانت واحدةً من أهمّ مغامرات سعيد أحمد المحروس، إن لم تكن أهمّها على الإطلاق. فقد نجح رجل الأعمال الراحل في إدخال علبته المعدنية إلى كل بيت سعودي تقريباً، منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي واستمرَّ حضورها في مطابخ السعوديات عقوداً طويلةً، قبل أن تدخل الأسواق والمطابخ “ماركات” الزبدة المتنوعة التي لا يستغني عنها مطبخ.
مرت 62 سنة على دخول العلبة الأسترالية بيوت السعوديين، وعلى الرغم من شدة المنافسة، ما زالت قادرة على تسويق نفسها بنفسها، والحفاظ على سعرها بين الأنواع المثلجة، دون أن يتغيّر شيءٌ من خصائصها، أو طريقة تخزينها، أو تحضيرها، أو استعمالاتها الكثيرة في الطبخات والموائد.. بل لم يتغيّر حتى تصميمها الأول الذي اختاره سعيد أحمد المحروس، ووضع اسمه عليه، في لقاء عمل في العاصمة البحرينية، المنامة.
قصة طويلة
قصة “قوطي الدهن” طويلة جداً، ومليئة بالمخاطرات العالية. ولم تبدأ تفاصيلها في البحرين، بل من دكّان صغير في القطيف، غرب ما كان يُعرف بـ “سوق الجبَلة”. بدأ سعيد أحمد المحروس أعماله بشراكةٍ مع الراحل سعود الحدّاد في ذلك الدكّان الصغير، ليُتاجرا معاً في بيع المواد الغذائية. لكن الشراكة لم يُكتب لها الاستمرار، فاستقلّ كلٌّ منهما عن الآخر، وبقي المحروس في دكانه متخصّصاً في تجارة السلع الأساسية.
من قرية الشريعة
تعود أصول أسرة المحروس إلى قرية الشريعة، بجوار قلب القطيف التجاري. حيث سوق “الصكّة”، وسوق “الجبَلة” و “براحة الدهن”، وحيث تصل ذروة التسوّق يوم الخميس. وحين بلغ “سعيد” سن الثانية عشرة؛ كان قد حصل على قدر من التعليم على يد الملا عبدالله الخباز. وأخذت مهنة عائلته في التجارة تُحرّكه نحو ميدان العمل، فخاض التجربة في السوق التي يقع منزلهم فيها تقريباً. بدأ ببيع الأغنام ودهنها، عام 1939م. ويبدو أن العوائد لم تُلبِّ طموحات “سعيد” اليافع، فسعى إلى البيع والشراء في “الأرزاق”. يشتري المواد الغذائية بالجملة من تجار محليين، ويبيعها الناس بالتجزئة. تعامل المغامر الصغير مع تجار في القطيف آنذاك، بينهم إبراهيم البحارنة وعيسى المحروس وباقر المحروس. لم يكن سعيد ليتجاوز تجار القطيف، إلا حين اندلعت الحرب العالمية الثانية.
حين اندلعت الحرب؛ أُصيبت خطوط الملاحة الدولية بعقبات، لم تعد تصل المؤن بسهولة. راحت أسعار السلع تتأثر صعوداً. الأمر الذي استدعى تدخل الحكومة لتأمين المواد الأساسية المستوردة عبر الموانيء. أصدرت ما عُرف بـ “البطاقة” التموينية، لتحافظ على استقرار الأسعار، فكانت تشتري السلع وتبيعها التجار، ليبيعوها الناس بأسعار متوازنة. ركب سعيد أحمد المحروس موجة مغامرة جديدة، ليبدأ أولى خطواته الخاصة بتجارة الجملة. وما إن انتهت الحرب؛ حتى بات الشاب الذي قارب العشرين على دراية أولية بطرق الاستيراد والتعامل مع أهمّ مركز تجاري في المنطقة الخليجية وقتها، مملكة البحرين.
ذكاء مقابل ذكاء
وفي إحدى سفراته؛ التقى الشخصية التجارية الأسترالية. كان الأسترالي ذكياً في عرضه، والمحروس ذكياً في التعديل على العرض. الأول؛ نبّه المحروس إلى الثورة النفطية القادمة إلى السعودية، والتدفق البشري الهائل الذي سوف يستهدف شرقيّ البلاد على وجه خاص، والحاجة إلى تنامي التجارة في الأغذية والسلع الأساسية بالذات. وهو تخصّص المحروس.
وجاء تعديل المحروس من “الجبنة” إلى “الزبدة” لأنه عارفٌ بسوق القطيف وقدرته على تلبية الطلب من “الدهن” تحديداً.
من براحة الدهن
في براحة “الدهن” تُعرض منتجات الفلاحين والبدو من الدهن. الفلاحون يبيعون دهن البقر الذهبي، فيما يبيع البدو دهن الغنم الأخضر المعروف بـ “الخالدي”. كيلو دهن البقر يصل ـ وقتها ـ إلى مبلغٍ ضخمٌ جداً. وبحسبة تجارية؛ يمكن بيع “العلبة الأسترالية” التي تزن 340 غراماً بريالين أو ثلاثة تقريباً. هذا يعني أن الكيلو بـ 6 أو 9 ريالات. فوق ذلك؛ يمكن حفظ الزبدة/ الدهنة لأكثر من سنة دون أن تتلف.
فوق هذا كله؛ لن يشتري سلعة مثل باقي السلع. بل سوف تُصنَع له خصّيصاً، ممهورة باسمه الشخصي. وتصميمها أُعِدَّ له كما أراد بنفسه. كرسيٌّ ذهبيٌّ، اختاره بين تصاميم أخرى، ريشة، طائر، شجرة، بقرة.. اختار كرسيّ الذهب، بلون “الدهن” تماماً، وكأنّه فألٌ مبشّر جداً.
تمّت الصفقة. ثم جاءت الشحنة الأولى عبر البحرين، إلى ميناء القطيف، إلى مستودع المحلّ.. إلى الدكّان، إلى الزبائن..!
صعوبة شديدة
لم يتمّ الأمر على هذه السلاسة من السرد. ليس من السهل انتقال ثقة الناس من “الدهن” الآتي طازجاً من نخيلهم في “بساتيق” إلى “دهن قواطي” آتية من بلاد بالكاد ينطقون اسمها. وأسهل عليهم أن يقولوا إنها “من بلادين فَوْق”. أي من بلاد أجنبية بعيدة.
أصلاً لم يكن الناس قد ألفوا أغذية “القواطي” بعدُ. ثم إن “دهن المحروس” مالح. ذلك من أسرار حفظها. لكن إزالة الملح سهلة. “تفوير الدهنة” ووضع تمرة فيها لتغلي معها وتمتص الملح. في النهاية هناك “دهنة بقر” أسترالية لا تختلف ـ إلا قليلاً ـ عن “دهنة بقر” القطيف. ثمن هناك الثمن الرخيص. أكثر من ثلث كيلو في “قوطي” أقل من سعر عُشر “البستوق”.
كان سعيد أحمد المحروس يقرأ المستقبل، بفهم ما يجري من قلة العرض من الدهن المحلي، وحاجة الناس إلى هذه السلعة. تحوّلات كثيرة آتية، وعليه أن يُنجح فرصه فيها. والسلعة الجديدة التي وضع اسمه عليها؛ واحدةٌ من سلع كثيرة يجب أن تكون جزءاً من قوت الناس. علبة علبة، كرتون كرتون، زبون زبون، شحنة شحنة.. ببطء شديد جداً تحرّكت “البضاعة” الأسترالية. لم تكن بسرعة “عيش البشاور” أو “عيش الهُورَهْ”، لكن سنوات الخمسينيات الأخيرة صنعت الفرق. وما إن أطلّ عقد الستينيات؛ إلا واسم “سعيد أحمد المحروس” معروف عند الأمهات والزوجات، في مطابخ القطيف.
الخريطة تتسع
لكن الخارطة لم تتوقف عند مسقط رأس الرجل، راحت تتسع إلى حواضر المنطقة الشرقية. ثم راحت تتسع لخارطة البلاد كلها، من شرقيها إلى غربيها، ومن شمالها إلى جنوبيّها.
نجاح التجربة الأسترالية حرّض المحروس على مغامرة أخرى، هي استيراد الزيت من هولندا، فكان زيت “كلارا” الذي دخل المطابخ ليُزيح “الودك” من احتياجات القلي. وعلى مدى تجاوز 6 عقود؛ ما زالت زبدة “الكرسي الذهبي” مطلوبة في المطابخ على نطاق واسع، ضمن أكثر من 30 ماركة تملك شركة سعيد أحمد المحروس حق وكالتها في المملكة، ممسكةً بحصةٍ مهمة من تجارة التجزئة في السعودية.
هوية
عبدالعزيز المحروس، رئيس مجلس إدارة الشركة، والنجل الأكبر لمؤسس إمبراطورية المحروس التجارية؛ هو مصدر القصة الرئيس. وهو قال لـ “صُبرة” إن الشركة تعتزّ جداً بهذه العلبة. وأضاف “بعد كل هذه العقود الطويلة من الاتّجار بها؛ لم تعد مجرد سلعة، بل هي هوية”. هذه الهوية بقيت كما هي في شكلها ووزنها ومحتواها وتصميمها، ولا وجود لأي تفكير في تغييرها إطلاقاً. الـ 340 مل كما هو، الشكل الأسطواني كما هو، اللون والشعار كما هما.. اسم “سعيد أحمد المحروس”، في مكانه.. كما أراد قبل 62 سنة.
منتج جديد يحمل الاسم ذاته