الهوية سلعة مُصنَّعة في أماكن مجهولة الجميع يراقب الجميع.. وهويات افتراضية تزدهر عندما تعيش خارج قيمها

حسن آل عبدرب النبي

“إننا نلتقي كل يوم ولكننا ما زلنا وحدنا”

توركيل.

هل يمكن الحديث عن هوية صلبة في زمن العولمة، وهل تستطيع الثقافات المحلية الحفاظ على قيمها وخصوصياتها، أم أن نظام العولمة لا يرحم؟!

العولمة ـ كنظام يخترق كل الحواجز ـ يسكن في كل مكان في الاقتصاد، السياسة، القيم، التاريخ، في الثقافة والدين. انها نظام بلا دولة يهدف إلى التحكم في العالم عبر عولمته وجعله خاضعا لرؤية الشركات العابرة للحدود والاقتصاد الليبرالي الذي جعل الربح غاية جميع السياسات ومنتهاها.

العولمة نظام يكتسح كل شي و يغير كل شئ من اجل ان يتمدد و يهيمن، لذا فهو قائم على التغيير من أجل التنميط، أي بناء ثقافة نمطية واحدة. العولمة تحاول بناء نمط سلوكي واحد وتسويقه عبر العالم، وهو نموذج المواطن المستهلك الذي لا يملك إلا بعداً وحيداً هو الاستهلاك و المزيد من الاستهلاك.

وعليه؛ أصبح كل شيء مجرد أهداف معينة ، وبالتدرج فقد العقل القدرة على الإدراك للحقائق في ذاتها وعليه أصبحت كلمة عقل تعادلها في الحياة “أداة” فأصبح العقل مجرد وسيلة والقيم أداة للتحكم نتيجة هيمنة ما أسماه عالم الاجتماع ادورنو “العقل الأداتي”، ومن أهم مظاهر التغيير الاجتماعي والثقافي في زمن العولمة هو ما مس الهوية الفردية وكذلك الجماعية.

أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي ذات أهمية متزايدة في حياتنا لأنها الأماكن التي نعرض تجاربنا المعيشية فيها. كما تعكس مجموعة متنوعة من الأبعاد فيما يتعلق بموقعنا في الحياة الاجتماعية الافتراضية والواقعية. كل هذه العوامل تجعل الناس يلعبون شخصيات معينة في الساحة الاجتماعية والشبكة الاجتماعية. وتسمح وسائل التواصل الاجتماعي بالتعبير عن الهوية والاستكشاف والتجريب، فهي تمنح الحرية للمستخدم وكذلك توسّع الواقع لديه لأبعد مدى.

إن عناصر التحكم في الحياة الواقعية هي ما تلهم المجتمعات عبر الإنترنت والتفاعلات التي تحدث داخلها، ومن الضروري فهمها لفهم التفاعلات الجماعية على المنصات الاجتماعية.

تمكين الأفراد من تقديم أنفسهم للآخرين وتحديد الطريقة التي يريدون أن ينظروا إليها بالإضافة إلى مساعدتهم على التواصل والتفاعل مع الناس والمشاركة في الأنشطة التي يرغبون فيها يوفره الاتصال عبر الإنترنت من خلال العديد من الطرق للتواصل مع الآخرين: قد يستخدم الأفراد أو لا يستخدمون أسمائهم الحقيقية، ويمكنهم فتح العديد من الحسابات كما يريدون.

تبحث كل من الهياكل التنظيمية في عالم الفضاء اللاسلكي عن الأشخاص الذين لديهم مشاعر وأفكار وآراء مشتركة ومشاركتها على منصات وسائل التواصل الاجتماعي والتحول إلى قوة نشطة من خلال تشكيل مجتمع من المستخدمين ذوي التفكير المماثل يسمى “المجتمع الافتراضي”. على الرغم من تعريف الوسائط الافتراضية بأنها افتراضية، إلا أن البيئة التي تحدث فيها وتتواصل مع الآخرين في تلك البيئة مرتبطة بالزمن وليس بالفضاء.

أصبح التفاعل الاجتماعي في البيئات الافتراضية أسهل حيث يُسمح للناس بالاختلاط بعيداً عن الضغوط المحيطة، حيث يمكن للمستخدمين التعبير عن أنفسهم بحرية دون آثار وقيود المجتمع الحقيقي. فمن المتوقع أن يؤدي الرأي والأفكار والميول التي تتم مشاركتها حول موضوع معين باستخدام وضع العلامات الرقمية كالأوسمة مثلاً في منصة “تويتر”؛ إلى ايصاله للمستخدمين الآخرين في الطرف الاخر من العالم بسهوله.

يرتبط هذا الوصول السريع لوسائل التواصل الاجتماعي ارتباطًا وثيقًا في حياتنا بالتغيير الذي يحدث في المجال الاجتماعي. وسائل التواصل الاجتماعي، هي العصا السحرية التي تحدد هيكل المجتمع، وتشكل أساس الاستقطاب والانحلال، وتضمن أيضًا الاندماجات والاتفاقيات على جميع المستويات. 

الجميع في هذا المجتمع أصبح يشعر بأنه تحت المراقبة وأصبح مفهوم الوصاية للأخ الأكبر في رواية جورج أورويل “ألف وتسعمائة واربعة وثمانون” ساري المفعول حيث يلاحظ الجميع الجميع، ويمكن للجميع التكرار مئات المرات ويستمرون في التكرار على أمل أن الوصول إلى السعادة بينما هم بعيدون عن الحقيقة وأقرب إلى الوهم.

على الرغم من المساحة التي يوفرها الواقع الافتراضي وإلغاء الحدود بين الأمم والثقافات واللغات. فالهوية الافتراضية هي هوية هاربة من واقع فعلي إلى واقع “وهمي” من أجل بناء هوية، وتشكيل ذات وفق رغبات خاصة بعيدا عن الواقع وضوابطه الاجتماعية.

الهوية الافتراضية أدخلت تغييرات كبيرة على الحياة الداخلية للأسر، لأنها وفرت فضاءً مريحاً للفرد في عوالم منصاته المتعددة، بعيداً عن مراقبة وتدخل العائلة و قيمها. وهو وضْعٌ أسهم في صنع العزلة داخل الفضاء الأسري ورفع من مستوى العزلة الاجتماعية على مستوى المجتمعات، وأسهم في التفكك الأسري، كما أن العلاقات الالكترونية طغت على العلاقات الاجتماعية.

العالم أصبح قرية “كما يقال”، وهذا منح الكثير من الوهم للأفراد على التجوال فيها بسهولة حيث الدخول والخروج متى يشاء الفرد ودون أي عناء. وفيها تم تصغير الكبير “العالم” وتكبير الصغير “الفرد”.

بمجرد الدخول الى القرية – الفضاء الصغير و المعزول و المعرف سكانه و تضاريسه و حتى تفاصيل حياته اليومية – فإن الزائر سيضيع و ربما يجد صعوبة من الخروج نظراً لتعقد مسارات التفاعل داخل شبكة تلتهم كل شئ بما فيها التهام الهويات الصلبة.

ما يؤكد أن الهوية الافتراضية هي هوية متغيرة غير مستقرة هو أن أغلب مستخدمي المنصات المتعددة لا يكشفون عن أسمائهم وعن هوياتهم الحقيقية، وهو امر  يوضح كيف يتم تفكيك الهويات الأصلية و إذابتها في فضاء لا نهاية له. فكثيرون لهم أسماء مستعارة ووجوه ليست وجوههم، وبعضهم له أكثر من حساب بأكثر من هوية وفق مصالحه ووضعيته الاجتماعية.

ربما يكون أهم شيء يمكن قوله هو أن الهوية الافتراضية التي أنشأتها وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت سلعة مصنعة في أماكن مجهولة وهذا ما يجعلها هوية هشة تتعرض للتحكم من خلال التلاعب واستغلال المعلومات الخاصة لأغراض خاصة، بالإضافة إلى تدمير مبدأ التناقض وإرساء مبدأ الحقيقة غير المعيارية، والرؤية السطحية.

الدرس الأهم الذي نستخلصه من هيمنة العولمة واكتساحها هو انتاج هويات جديدة قائمة على الصور النمطية والتشابه، وهويات افتراضية تزدهر عندما تعيش خارج قيمها وعاداتها وخصائصها وتفضل الإقامة هناك بمعزل عن الواقع.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com