على هذا النحو رأيتُ عبدالكريم زرع

حبيب محمود

 .. وكأنّ القصة بدأت من إيقاف سيارة عند ناصية من حي “الفسيل”. ما كان يعني محمد الميّاسة هو تعريفي إلى شعراءَ شبّان. وما كان يعنيني هو الخروج من البيضة. صعدنا ما يُشبه السلالم في اتجاه “الديرة” الرابضة على رابيةٍ. عبرنا “زرانيق”، تفرّعت، وتفرّعت، حتى انتهت بنا إلى باب.

انفتح البابُ على مجلس عربي، وزولية، ودواشق، ومساند. انفتح على “روازن”، على شبّان مأخوذين بالشعر، مختلفين فيه. كنتُ الطاريءَ المحمول على “شبهِ الشيء المنجذب” إلى وجوهٍ هشّت وبشّت منذ الزورة الأولى، في الحاضنِ الأول الذي عرفته لـ “منتدى الغدير”.

حين أسندتُ ظهري إلى “تَكيَهْ” من خلفها روزنة؛ بدا لي وجه المُضيف.. إنه ذلك الشاب الذي رأيته قبل سنتين في أمسية شعر في تاروت وهو يخاطب جمهور نادي الهدى: وقد خاب قومٌ شعرهمُ كلُّه حُرُّ…!

 سهلٌ عليّ أن أذكر للميّاسة اصطحابي إلى منزل والد “عبدالكريم آل زرع”، الشاعر فقط آنئذٍ، الشيخ راهناً. وسهلٌ عليّ تذكّر المنزل الآخر لوالده في “الحوامي”، ومنزل الشاعر الجديد، ثم منزل شقيقه في التركية. وكلها منازل لآل زرع في تاروت، يضارعها منزل لآل البيك في الوسادة، تلحق بها منازل أخرى؛ الجنبي في الدخل المحدود، والشبركة في الشويكة، وحمود في تاروت.. وكلّها جمّعت فرقاء الشعر والأدب:

 شفيق العبّادي الجامح بجزالته وعنفوان لغته..

حسين آل رقية الساخط على عمود الشعر وعموديته، المتبرّم من غنائية الرومانسيين، المبشّر بحداثة أدونيس، المباهي بمحمود درويش، المروج لعادل خزام في “مبتدأ العفونة”، و “لأني عشتُ أبحثني”.. رقية المتصادم الذي لا يهادن..!

محسن الشبركة العائد من أجواء جامعة الملك سعود، حيث تصادم التراث بالحداثة، وتشنيع السلفية على النص الجديد، وقصف العشواءِ المتلاحق لأدب محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وعبدالله الغذامي وعلي الدميني وفوزية بوخالد وأشجان هندي.. وسائر الذين اتهمهم حبر الإسلام السياسي باختلاط حابل “حداثة الأدب” بنابل “حداثة الحياة”.. وليس “صاروخ” عوض القرني “الحداثة في ميزان الإسلام”، بأسهلها..!

أحمد نصر حمود الذي اقترح ـ ونفذ ـ تحويل بعض لقاءات الأدب إلى ملء استمارات، استوحاها من ورش جامعة الملك فهد.. حيث كان يدرس..!

فاضل العماني الذي يحضر يوماً ويغيب أشهراً..!

حسين الجامع في منبرية شعره..!

حسن الطويل، المنتصر للخليل، كلّما قرأ شعراً..!

جمال رسول، في حيائه الناعم، ورقته، لغةً وحديثاً..!

الأخوان البيّك: الشاعر عبدالله، والناقد محمد..

عبدالخالق الجنبي الذي كانت نفسه تحدثه على خطَرَيْن، الشعر والتاريخ، مهدّداً تارة بـ “قريباً ستنفجر الشرنقعة”، ويائساً تارة أخرى:

وإني في يقين أن حظي

من الدنيا سرابٌ في سرابِ

وأني ما خُلقتُ لرغدِ عيش

كأن الهمّ والأحزان دابي

ولو أن القضاء أراد شخصاً

يفجّرهُ لأقبلَ نحو بابي

كأني ما شبعتُ من البلايا

كأني ما ارتويتُ من العذاب

محمد الماجد الذي لحق بالصَّحب على حين صُدفةٍ؛ ليحفر توقيعه منذ أول منبر..”فلتغنّوهُ نبيّا”..!

لا أعرفُ من أغفلتُ، ومن سهوتُ عنه. وحسبي وجه اللذة في تذكر “إخوان الصفا” الذين اجتمعوا قربة إلى الشعر والجمال، ولكلٍّ منهم الفلك الذي يسبح فيه..!

 وإذا كان من شيء يُقال بتوقيع كلمة “لكن”؛ فهو أن كلَّ هذا الخليط؛ كان نحن.

 وعبدالكريم آل زرع ـ الشيخ الآن ـ كان جزءاً منه، بل ومن الضالعين في استمراره، بل ومن المتواطئين على تناغمه، بل ومن المدانين برعايته.

فيا لله؛ ولمنتدى الغدير، كيف برع هذا الرجل المتنوع في منح المنتدى جزءاً مهمّاً من قلبه، وكيف فرش له ترحابه وبيته، وكيف استوعب الحداثة والتراث في مجلس والده في “الديرة”، ومجلس والده الآخر في “الحوامي”، وكيف هيأّ منزله ومنزل شقيق له لمنبر أمسياته..!

 كل ذلك؛ ودوام “الشفت” يقلّبه في معامل راس تنورة، والتزام العائلتين يبعثره “لهذي ليلةٌ ولتلك أخرى”، والتزامه دراسة مناهج الحوزة ينقله من عمامةً إلى عمامة. وعضوية مجلس إدارة خيرية تاروت تنتهبُ اجتماعاته وتوقيعه ومتابعته..!

ثم ماذا..؟

ثم إنه يدرُس ويدرّس

ثم لا أدري كيف قُيّض له أن يكون مُلهماً، وكأنّ “عبدالكريم” معفيٌّ من التركيز شاعراً، وكأنّ عقِبَ إبداعه تنوع في منحه وعطائه واشتغاله ومساندته، ودعم الآخر.

 ثم لم تنكشف لي السيرة المفصولة بين عامي 1993 و 2017. صدقاً لا أعرف.

 وأظنّ أن من حسناتِ هذه الليلة الطيبة، أن نسجل المودة لهذا الرجل الخيّر. الرجل الذي ما زال ـ حتى مع مرضه المزعج ـ مصرّاً دؤوباً على العطاء، على الوزن الذي كان عليه في شبابه، وإصراره على التحصيل. وعلى ما لديه من فضيلة؛ فإنه لا يتزيّا بلباس المشايخ تواضعاً وإجلالاً للعلم والعلماء.

وذات ليلة ربما حال عليها الحول؛ التقيته وجلستُ إليه. حينها كان بعض مصافحيه يقبّلون جبينه، وهو يكاد يتحاشاهم. كان حديث دقائقَ من هامش وقت أمية للشاعر علي مكي الشيخ في التوبي.

أخذنا حديث المرض والدواء، حديث الحوزة والتعليم، حديث الأولاد والأحفاد، حديث التقاعد من أرامكو. “أبو علي” لم يتغيّر. ذلك الجوهر الودود الخفيض الصوت، النشِط.. لم يتغير منه شيء. وكأنّ ملامح الحديث تُفضي بمودّتها كما كانت في ذلك البيت القديم في “ديرة” تاروت.

كأن القصة على هذا النحو، أو على هذا النحو أراها..

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×