أرى الأرض مخروطاً على جسدي حسين آل رقية في حقول النص الجديد بالقطيف

سيد محسن الشبركة

مفترشاً السجادة، ومستنداً إلى الجدار، يجمع حسين آل رقية جسده النحيل نحو الأسفل قليلاً، ويرفع يديه راسماً بهما شكل مخروط يضغط على الجسد، وبصوته العذب المتهجد يضغط على الكلمات والحروف:

إني أرى الأرض مخروطاً…

في أداء مسرحي وباتسامة تنم عن انتشائه بالمعنى..

كان ذلك عام 1407هـ، في منتدى الغدير بالقطيف.
لقد ناء حسين بثقل الأرض مبكراً، كانت مخروطاً يحاول ثقب جسده، ربما على طريقة أن تعرف أكثر هو أن تشقى أكثر، هو الذي كان ممتلئاً بالشعر والرسم والأفكار والحياة، يفيض وعياً وألقاً.. بئراً وحقولاً لا تنضب من الأزهار والخصب.

أرى الأرض مخروطا…

أنشأ حسين تلك العبارة ذات نقاش حافل وهو يبشّر بالشعر الجديد، ثم استعادها في جلسة أخرى محتفياً بها، معلّما يغرق في التفاصيل والأمثلة، يستحضر لدرويش (ورائحة البن جغرافيا) ثم يوسع دائرة الوطن ومرمزاته الثقافية.
عنت الحداثة بـ “القول المختلف”، باللغة وهي تنبذ عنها الهذر والسفاسف والزيف، عنت بالقول المختلف الذي هو نتاج وعي وتجسيد لرؤية جديدة للأشياء، تلامس دواخلها وتعيد اكتشاف حقيقتها التي غطتها عتمة الزيف السائد وطغيان المادي؛ على طريقة هيدجر في فهم معنى وحقيقة الأشياء حين حضورها الحقيقي وقت الاحتياج إلهياً بعيداً عن مسمياتها..

وعي بأهمية اللغة وهي تحمل وتعبر عن رؤية للعالم والإنسان والوجود.. حينها كانت الحداثة تعني إعادة لاكتشاف اللغة وحقيقتها ووظيفتها، وإعادة صياغة علاقة الإنسان بنفسه والأشياء والعالم من خلال اللغة والقول، وكان على الشاعر أن يكون رائياً، ولكي يون كذلك عليه أن يفيض وعيا وجمالا يراه في الأشياء.. الحداثة في جانبها التنظيري والفكري بعيد عن مآلات خطابها.

بهذا فإن الكون بأشيائه محتاج إلى بصيرة لنعرفه، وإلى تطواف لنتواصل معه، وكان الشاعر الحق رحالة مكتشفا، وعارفا بالأسرار، يقول حسين:
أسرّ خبايا التطوّف في معطفي
فانسبيني إلى صهلة من صهيل الرميم
ولا تقفي…
والمعطف الذي يلف جسد الشاعر ويتوحد مع ذاته، هو مخبأ أسرار التطواف والترحال، المهمة المكلف بها الشاعر، والصهيل إيذان بالحركة والسفر والتغيير ضد ما هو سائد وواقف وقار متهالك.. حركة وتطواف يتسع ليشمل الكون ويعيد اكتشافه وتعريفه: يقول حسين في مطلع نصه “وصف الكون”:
(تصف الكون.. الهواء يضرب في ساحل الملح)
ووصف الكون أو الأشياء هو نتاج إعادة اكتشفاها، ومن ثم تحضر العناصر الأولى والخميرة التي تتكون منها: الهواء، والتراب (الملح) والماء (الساحل)، وربما النار بفعلها (يضرب).. هي رؤية تتغلغل في العناصر ومكونات الأشياء؛ تنطلق بعيدا وتتسع لتشمل الكون، وتقترب عميقا بحيث تتغلغل وتمس الأشياء الحميمة والقريبة من القلب، تلامس الرغبة والعشب والخلال وهواء الشرايين، وصفاء الطفولة، ذلك هو ما ينبئ به هدهد سليمان، الهدهد المستكشف والعارف:
يا أيها الطائر الأغر.. تبحر
وطر.. ثم خبر سليمان أنا سنبقى طويلا
وأنا سنرسل من رسمنا رغبة
ثم نشري من العشب أوقية
أو من هواء الشرايين.

كان لي طفلة.. وأنا من رياح الطفولة يوما..
أوزعها قبلات النخيل
وابتاع “الخلال المخلل
ثم ألبسها منه عقدا جميلا
في منتصف التسعينيات الميلادية، كان ما يتلوه حسين من شعر وما يستحضره من أخيلة وتعبيرات جديدة، مثارا لجدل ونقاش حاد حول معاني هذه “المعميات” وجماليتها وفلسفتها وطريقة تأويلها وفهمها.
ولكنه وبجانب تجربته في كتابة النص الحديث، يملك تجربة ثرة في كتابة العمود، تجربة تفيض بالمعنى والحياة واللغة، وغنية بمخيال متجاوز، ورصف متين؛ تتشكل من مقطوعات قصيرة ومتوسطة الطول. يقول حسين في مقطوعة عن الإمام الحسين عليه السلام:

قطّعت ناصية الفؤاد بخلجة

تطفو على مرآته وتجلجلُ

إني أرى فوق الورود له دما

فوارَ، قد ملأ البحار وتنهل
عبق على الأرجاء حل بنينوى

ترب سماوي وماء سلسل

وحين يذكر نخلة وطنه فإنه يفيض رقة:

آه للنخلة في وطني.. وحنيني للشوق الأول

وحين يكتب رباعية، فإنك تقف في كل شطر على صورة متعالية وفائض معنى:

لهذا الخفق أجنحة ترف

إلى مسراك عشقي لا يكف
تجلت لي نسائمه، فلولا

أديم الأرض أحنائي تشف
تقاطر روحه في الروح حتى

تقارب في الهوى سمع وطرف

شعر خليلي بخفق يرف، وأحناء تشف، وروح تتقاطر.

الشاعر حسين رقية، الذي شارك في غرس جماليات جديدة في النص عبر مشاركاته نقاشا وإلقاء ونشرا، انزوى مبكرا عن الفضاء العام؛ وجلسات منتدى الغدير تلك ستنتج فيما بعد أسماء ساهمت في تشكيل الفضاء الثقافي المحلي والدائرة المرتبطة به.. قبل عقد من الآن تقريبا، كانت فكرة نشر مجموعة من نتاجه حاضرة لدى مجموعة من أصدقائه، تم فيها جمع وصف مجموعة من النصوص ولكنها لم تتم.. لعل هذه المقالة التي استحضرت ما علق في الذهن والأوراق المتفرقة من شعره، تسهم في إيقاظ الفكرة.

تعليق واحد

  1. استعراض مبتسر
    أشعر أن ثمة ترهلًا في الكتابة بهكذا هيأة
    كأنما يقع القارئ في فجوات نصية، أو أن الكاتب لهذه السطور وزّع على بياض مسودته هذه القبسات للشاعر ومن ثم بدأ بملء الفضاء بينها.. ولم أعرف سببا أو مسوغًا لإيراد بعض العبائر..
    تمنيت أن يتم تسليط الضوء على مثل هذه التجارب بقلم أكثر عمقًا وجدية
    وأرجو أن ترى مثل هذه التجارب النور قريبا؛ ليتم الاحتفاء بها بشكل لائق

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×