سيرة طالب ١١١] خيوط من الذاكرة

الشيخ علي الفرج
هذا المقال كتبته عام ١٤٢١هـ كمقدمة لديواني المسمى (نسيج المرايا)، فرغبت أن أنقله حرفيا:
في سنة ١٣٩١هـ لم أكن أتذكر شيئاً سوى أنني كنتُ أمسح مفاصلي من صدأ العدم، وأمـي تساعدني على ذلك، وكنتُ وأنا في كفها ابحث عن منفذ للغربة، لا يزال بناء ذلك الجسد يتطاول.. وفي السادسة من عمري أوصلني أبي إلى المدرسة، وفي أول ساعة بالضبط تعرّفت العصا على أكفنا، فكانت أول نفثة شيطان في عقولنا .. تجاوزت الأسوار واحداً واحداً.. حتى آخر سور.
ت [ خرجت ] بخزينة كبيرة من التجارب والأصدقاء إلا العلم، فهو دائماً هناك يتأبى عنــا ونتأبى عنه..
وأكثر ما يثيرني في تلك المساحة الزمنية عندما أسمع صوت الكرة التي بين أرجل أترابي ترتطم بحيطان بيتنا القديم، وأنا أعصر أطراف الكتاب شراهة للعب، وهي أول غربة أحسها، ولكنني كنت أقـارع تلك الشراهة بشراهة أعظم منها؛ وهي التي فتحت لي مساحة على الورقة ليتحرك فيها القلم.
بدأ الشعر يلفظ نفسه للخارج، وأنا في الثانية عشرة، وقد كان في الداخل وفي المخاض بدون تأريخ، لأنني لا أتذكره، وربما لا يوجد.
في سنة ١٤١٠هـ وجدت منفذاً للغربة فهربت منه إلى النجف، كنتُ هناك أكره التميز، لأنني أتصارع مع الخجل في كل يوم، والتميز يزجني في قعره.. حملـت مـن النجف -في عشرة أشهر وبضع الأيام- أشياء كثيرة أهمها الطموح للأبعد الذي لا يزال يعبث برأسي: دائماً هناك ما هو أبعد مما عندك فابحث عنه ..
في سنة ١٤١٢هـ قذفني القدر إلى دمشق وهناك تشكلت كتل أدبية داخل ذاكرتي لا زلت أستل من خيوطها.. وكانت ثلاث سنين جميلة، وأجمل ما فيها أنها لن تعود.
أخذت الحياة تسير بجدية اكثر عندما تزوجت سنة (١٤١٥هـ) حيث انقطعت هواجس المراهقة التي كانت شبحاً مخيفاً.. وجدت أن أحسن شيء في المرأة أن تذكرك بين الفينة والأخرى أنك رجل مع امرأة.. بعد اشهر نفضتُ غبار الوطن عن ثيابي لأنقل السجن الحنون إلى قم.
حاولت أن اكتشف نفسي فيها، واضبط بوصلتي من جديد.. فاجأني الزمن بطريقين؛ الإيمان بأحدهما كفر بالآخر.. الأول يأخذني في حركة رأسية، والثاني يأخذني في حركة أفقية، والوقوف وسطاً هـو هو الاستسلام وسط الصليب.. يا للغز.
قطفت وردة في الغربة أسميتها (حسن)، وأخرى في الوطن أسميتها (حسين)، ولا زلت ألاحق اللغز الذي يتشهى في كل يوم أن يجر خيطاً أبيض من رأسي..