[2 من 3] مدام بوفاري، وآنا كارنينا.. في امتداح الفضيلة

محمد الماجد
هذا النمط الإسبارطي استمر إلى بداية الرواية الحديثة، حيث تعكز ثيربانتس على القصة الأثيوبية في كل حروب دون كيخوته الموهومة، فيما تأسس إلى جانبه نمط مغاير ذهب إلى الإيغال في تفاصيل الواقع، وبالدفع بالجريمة إلى الواجهة، وبازدراء كبير لسرديات الماضي، كما هو الحال لدى ديستوفسكي، وتنظيرات شوبنهاور التي شكّلت مناخاً مناسباً لهبوب مثل هذه الرياح، فضربت وبقوة أساسات البنى التقليدية الساكنة، فكانت (أُذُن) فان جوخ، إحدى تعبيراتها الفنية الأبرز، فيما سيسهر روائيون على التأكد من أن هذه المسيرة الروائية لا تضمر سوى الحقد على كل ما هو خيالي، وأنها مسيرة عصبوية، وبلا عاطفة، وكان على أحدهم أن ينزل الرواية من أعلى الشجرة حيث تناهبها تياران غاية في التطرف، وأنا أرى هنا أن فلوبير، وبعده تولستوي، هما من قدّما تلك الخدمة التاريخية للرواية، حين تمكنا من وضع السلَّم أسفَل تلك الشجرة.
أخيراً أنا هنا، وصلت متأخراً قرنين منذ ولادة الأختَين: إيما/فلوبير، وآنا كارنينا/تولستوي، لأشهد هذا النزول السَّلِس، الذي لم يحتج معه المؤلِّفَان لأي تدخل جراحي حاد، فالعصر الفيكتوري بكل ما يحمله من قيم الطبقة الوسطى، وبقوة دفع وفرتها له الثورة الصناعية، كان قادراً أخيراً على توفير البيئة المناسبة لتحرير الرواية من قبضة النخب، وأخيرا أيضاً صار بإمكان شخص متعطش لأي هزيمة نفسية مثل فرويد، الذي وُلِد مباشرةً في السنة السابقة لنشر رواية (مدام بوفاري) في 1857م، أن يتسلل إلى المخزون الهائل من الانكسارات الذي وفرته له بطلة الرواية، ليستخدمه رواد مدرسته، من المدمنين على التحليل النفسي، وسيلةً للدخول للنقد الأدبي، ومن البوابة الخلفية هذه المرة.
أخيراً أنا هنا، وبعيداً عن المرويّة التاريخية، أحاول أن أتسلّل إلى موعظة فلوبير الأخلاقية، وعندما أقول فلوبير، فأنا أقصد تولستوي بالضرورة، ولكنني مهتم بمدام بوفاري أكثر من آنا كارنينا، لأن فلوبير اختار أن يجعل من بطلة روايته ضحيةً لحفنة من الروايات الشَّبقة، أي لذلك الجزء السائل من الطبقة البرجوازية، فيما تولستوي كان مشغولا بإظهار الجانب الصلد، وما سأقوله عن الثقافة الهشة، فيما لو قررت ذلك، وارتباط تنظيراتها بمجموعه من المغامرات الليلية، وزجاجات البيرة، للدرجة التي ستظهر فيها الثقافة وكأنها علامة ترويجية لمشروب كحولي.
وفي مثل هذا التوصيف الأخير، لن تكون إيما، أو مدام بوفاري، سوى دليل آخر على ما يتمتع به المتحمسون لمذهب اللذة الحسّية من حس فكاهة يضارع ذلك الذي لمهرجي السّيرك، وقد أبدع فلوبير في فضح ذلك، للدرجة التي ستجعل من أخلاقية كانط ذات البعد القانوني مجرد مزحة أمام ما يقوم به هو من انتصار لمبدأ التلقائية الأخلاقية، ومدى ما تتمتع به من أصالة، وربما أعطانا هذا فرصة أخرى للقول بأن الأدب يمكن أن يكون هو المعيار للقياس الفلسفي، لا العكس، أي أن الفلسفة هي موضوع الأدب، وعليه يمكن لفلوبير أن يدعي بأن أيَّ عملٍ فلسفيٍّ مهما كان عظيماً فلا يمكنه هزيمة قصيدة، أو رواية، أو حتى مسرحية، ما دامت الفلسفة، مدفوعة بغريزتها التاريخية، لا تزال مسجونة في فضاء من العقل المحض.
مسكينة مدام بوفاري، فليس لأحد سوى فلوبير أن يخبرنا بأن بطلته، وبعد منتصف الرواية بقليل، قد أصيبت بما يشبه الجذام الروحي، فبالرغم من كل ذلك الهواء الكنسي الذي ملأ مسامات روحها، لم تدرك، ومع أول خرق أخلاقي قامت به مع ليون، أنها قد حشرت فطرتها في الزاوية المظلمة والصعبة، ومع الوقت، وتتابع الخروقات، صار على فطرتها أن تتحول من قطة أليفة إلى وحش كاسر، ولا أدري ما إذا كان أحدٌ يمكنه الادعاء – بالرغم من كل ذلك التضليل الأيدلوجي لتيار اللذة الحسية – بأن الزرنيخ، والقطار، وليس الوازع الأخلاقي، هما السببان المباشران في انتحار مدام بوفاري، وآنا كارنينا، على التوالي، وفي حال فعل أحدهم ذلك فلن يكون ذلك مصدراً لانزعاجي، فهذا هو القدر المتيقن لمن لا يفرق بين (المظهر) و(التعبير)، فالزرنيخ، في حادثة انتحار مدام بوفاري مثلاً، لم يكن أكثر من مظهر للخلاص، وهي صورة إلى الآن مازالت بحاجة إلى مغطس للتحميض، ذلك المغطس هو تماما ما أقصده بــ (التعبير)، وهو الذي إذا ما قررت تلك القطة الأليفة أن تغمر جسدها فيه فستخرج وحشاً كاسراً، هو من سيفسر لنا السبب الذي من أجله ذهبت مدام بوفاري إلى مسخ فطرتها، وكيف وصلت إلى ذلك المصير.
اقرأ الحلقة السابقة