[1 من 3] مدام بوفاري، وآنا كارنينا.. في امتداح الفضيلة
محمد الماجد
كانتا أكبر من مجرد صفعة للرومانسية الحالمة، أكبر من مجرد إعلان لولادة نظام جديد سينال قريباً من كل الإرث الطوباوي الذي خلفته الثورة الفرنسية، مدام بوفاري، وآنا كارنينا، عاشتا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (العصر الفيكتوري)، وسيكون عليهما الرجوع أكثر من خمسة وسبعين عاماً إلى الوراء لإعادة ضرب السياج من حول قصر الباستيل، وإعطاء الإشارة التي ربما ستكون الأولى من نوعها لخلق موجة من السرد تمكّنهما من ضرب خاصرة الثورة، وإنزال العقاب بأباطرة عصر التنوير: جان جاك روسو، وفولتير، وديفيد هيوم!.
ولكن قبل ذلك التاريخ بثلاثة آلاف سنة، كان عليّ أن أذكَر حدَثَاً شعريّاً هاماً، الحدثَ الذي كان من المفترض أن ينجز ما قامت به الأختان بوفاري، وآنا كارنينا، لولا أنه رمى بذيل حبكته الدرامية في مجاز فائض عن حاجة الواقع، ففي الإلياذة كانت الفاتنة (هيلين) قد تعلقت بــــ (باريس)، مضحّيةً برباطها الزوجي مع (منيلاوس)، تماما كم فعلت الأختان مع زوجيهما، وكان على هوميروس، في هذه اللحظة المفصلية من حياة السرد أن ينتهي بحياة هيلين إما إلى الانتحار، أو الجنون، فيما لو قررّ تتبّع مصير الأختَين عبر رحلة مفترضة كان سيقوم بها إلى المستقبل، ولكنه فضل أن يبقى حيث هو، وأن يكمل السيرة الذاتية للمثيلوجيا، بدلاً من مواجهة بطلته للواقع وعذاب الضمير، فقرر إعادة هيلين مرة أخرى إلى حضن زوجها، ملقياً باللوم على الإله فينوس الذي قام بسحرها، وبذلك نجح هوميروس في الانتصار للنظام الاجتماعي ممثلاً في العائلة على طريقته الخاصة، وبفضل بطلان سحر فينوس أيضاً.
غير أن فلوبير في (مدام بوفاري)، وتولستوي في (آنا كارنينا)، الاثنان وفي ضربة واحدة، لم يمنحا لفينوس حق النقض لما يقومان به، لم يكن القرن التاسع عشر ليحفل بفينوس، ولا بكل توسّلات الآلهة، إنه قرن مأزوم في بدايته بتبجيل كل ما هو رومانسي، وفي منتصفه بالحنق على عصر التنوير، الذي تسبب بفضل عقلانيته المتطرفة في كل ذلك الطفح العاطفي الذي استمر لأكثر من نصف قرن، منذ الثورة الفرنسية وحتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، فذهب كل منهما، أعني فلوبير، وتولستوي، ولأول مرة، إلى تعريف الضمير الأخلاقي للقارئ كأداة للانتقام، وباستعادة معدّلة جينيّاً لمسودّة الأحكام في الكتب المقدسة، وهي الاستعادة التي لن تتمكن أي مؤسسة قضائية، سوى مؤسسة الضمير بالطبع، من اتمامها بشكل يليق باليقظة الإنسانية الصافية، والتواقة أبداً للانعتاق من قيود الخطيئة.
فيما كان انتصار هوميروس للميثلوجيا، قد شجع هيلودورس الحمصي، في روايته إثيوبيكا (القصة الأثيوبية)، في حدود القرن الثالث الميلادي، على تعميق جذور الميثلوجيا، وتأسيس نمط روائي مثالي وحالم، وسيكون على هذا النمط أن يستمد كامل طاقته من الأسطورة، متعالياً على الواقع، فلا صيغة مكانية، أو زمانية، يمكن أن تقيّده، إذ قلّما سيتمكن أحد، وحتى بداية عصر النهضة من الإفلات منه، وكما تدخّل فينوس لإنقاذ هيلين في الإلياذة، تدخلت الآلهة هنا أيضاً لكسر التقاليد الملكية الأثيوبية التي لم تكن لتجيز زواج ابنة الملك من شخص من عامة الشعب، ابنة الملك المدعوة خاريكليا، التي جاءت مع حبيبها تياكنيس من اليونان إلى أثيوبيا بحثاً عن ملاذ لعشقهما، ليُواجَهان بقسوة تلك التقاليد الراسخة، انتهى بهما المطاف إلى الزواج، في محاولة لا تنقصها الرغبة من هيلودورس في تعزيز مكانة الأسطورة، انتصار آخر لهوميروس، ولكنه هذه المرة جاء على يد روائي هيلينستي عَبَر الحدود من اليونان وحتى أثيوبيا مرورا بمصر وهو يقاتل الجغرافيا، وتضاريس الشعوب الوعرة، متدرّعاً بالكتابة الحالمة التي كان من المؤمَّل تملأ رئة الأرض بهواء العشق، وبالسرد المحقون بجرعة عالية من المثالية.