[تعقيب] إيقاع الخروج.. وضياع جهود التجديد في موسيقى الشعر علينا أن نفتش عن الظاهرة.. لا عن جوازها من عدمها
أيمن عمران
علم العروض إيقاع، ضمن أنساق مهيكلة، معروفة بتفاعيل ثابتة المقاطع تارة متغيرة أخرى، ماجعله مادة ثابتة الجوهر، وما إن تقاطع هذا الثبات مع الشعراء -قديمًا وحديثًا-، حتى أُقْحِمَ بمبرراتٍ علمية وظنِّية وفق أهواء عدة بين قبول ورفض، تعدَّى هذا حتى ممن أحسن الوزن وأجاده، إذ يقول المعري في نقده عبيد بن الأبرص:
كما اختل في وزن القريض عَبِيدُ
مع أن عبيد لم يخل في وزنه بل كانت قصيدته مغايرة في نسقها الموسيقي عن سائر القصائد المعاصرة له وأحسبها واحدة من القصائد التي سبقت عصرها، مع هذا فيقيني بأن المعري على ثقله هذا لم يخنه الوزن ولم يكن على جهل بعروض الخليل ولا بوزن كمخلع البسيط فله صولات وجولات عروضية نفيسة، لكنها المحافظة على القيود! ما جعل الكثير من المتقدمين والمتأخرين محل نفرة منها ليخلقوا من الثبات تغيُّرًا ومن المحافظة انفتاحًا، فقد تغيرت تلك المعادلة وبَدَت الأصوات من هنا وهناك تُثْبِتَ بأنَّ لها حق التعبير في التغيير دون التزام. وهل الخليل -رحمه الله-، أودى بنفسه ليكون بين ذا وذاك؟ وهل فرض نفسه بنسقية معينة ثابتة أم وسَّط عبقريته وجعلها صالحة لكل زمان ومكان؟ إن هذا الأمر يشي بكثير من الاجتهادات وتضاربها، ونرى ذلك بوضوح وقد سبق وقلتُ بأن العروض مر في أحايين كثيرة بين أناس تقبلوه تارة وأحدثوا فيه أخرى ورفضوه نادرًا.
فجوة وصراع
علَّ هذه الفجوة خلقت منا صراعًا في النسق الموسيقي، والمعَرِّيُّون من لا يقبلون استحداثًا، بل الدقة والثبات والتفريق، وأي خلاف في مبناهم فقد خرج الشاعر عن المسار الصحيح معادلًا في ذلك الكسر العروضي، ولهذا كان القصد في شطر المعري آنف الذكر هو الخروج عن المباني الموضوعة لا الكسر الحقيقي، فلا يمكن فطريًّا أن تَرْجَحَ كفة على أخرى، لذلك ميَّزُوا بين ما يمكن مزاحفته وبين ما لا يمكن، والكفتان لا تتعادلان دائمًا فقد يتَّفق أن يكون شطر ما أوفر حظ من الآخر! لذلك يرى من يخالف هذه القاعدة كالجوهري في عروضه، أنه بالإمكان المجيء بضربين في قصيدة واحدة وقد قال هذا في بحور لم يتَيَسَّرْ لها هذا الجواز منذ ذاك وإلى يومنا، وقد وُجِدَتْ محاولات في هذا لكنها خجولة، وربما هذا ما دعى الجوهري ينحى منحًى أكبر ليوسع دائرته في بحر إضافي في الجواز، فتفعيلة “فعْلن”، هي نتيجة مزاحفة تفعيلة “فعِلن”، غير أنه لازم كما وصلنا في الكتب العروضية ولايجوز الجمع بينهما على أي حال، بينما “متْفاعلْ” مزاحفة من “متَفاعلْ”، غير أنه غير لازم ويجوز الجمع بينهما في قصيدة واحدة، فهذه نقطة مهمة ينبغي تدارسها وتداركها في وقت غير هذا. وأقر أبو الحسن العروضي في عروضه إثبات فاعلن وجوازها في البسيط بينما أقر الغالبية وجوب فعِلن.
وما أكثر هذه الأمور التي نراها غايرت الواقع العروضي الذي بين أيدينا؛ وفي حال سألت المهتمين عن سبب جواز الجمع بين ضربين في بحر واحد مثلا وفي بحر آخر لا، يجيبك: “هكذا جرت القاعدة، وهكذا قال العروضيون!”
وبهذا ضاعت الجهود التجديدية المضنية، ووصَلَتْ على استحياء إلى قلَّة من المهتمين!
خلافات
كل هذه الخلافات التقعيدية أو الظنِّية، حلَّقَتْ بنا نحو أطر جديدة، من خلالها اتضحت معالم تجديدية، ولربما لو قرأنا وسمعنا بالمعالم التجديدية يتبادر إلينا أنه في العصر الحديث دون غيره، والحقيقة تأبى، فقد تسابق المتقدمون لهذا التجديد، ولعلي أذكر ماقالته نازك الملائكة في ادعائها السبق وإحداث حركة تجديدية في العروض بإدخالها “فاعلُ”، فتقول: “وليس في الشعراء فيما أعلم من يرتكب هذا سواي”، فقد سبقها بذلك الحُصْري القيرواني وشوقي! وإضافة على سياق “فاعلُ”، وبدعة اختراعها وتبرير حدوثها بهذا الشكل الحركي، فنحن في حاضرنا لا نعرف من الزحاف إلا الحذف والتسكين وهذا يغاير هيكلة هذه التفعيلة، إلا أن بعض المصادر تذكر بأن هنالك ما يسمى بـ”الإقران”، يعني هذا أنك تزاحف التفعيلة تحريكا، وهذا المصطلح قديم تجاهلته الكتب العروضية؛ لهذا كان من صالح نازك أنه لم يُذكر! وظني أن الإقران أجدى من قول البعض بأن “فاعلُ”، نتيجة “فاع لن”، الموضوعة فيجوز مزاحفة النون لوقوعها في السبب! وقد بيَّنت هذا وتوسعت فيه في موضوع مخطوط لم أنشره “بين المتدارك والخبب”.
هذه إحدى المخارج الموسيقية الصرفة التي تشارك فيها الجيل القديم والحديث.
اجتهاد التفعيلة
وعلى صعيد الهيكل فقد طرأ وأن مرَّت القصيدة بصنوف عدة وبأشكال مختلفة فلم تسلم التفعيلة من الاجتهاد، فقد ادعى “روادها”، بادعاءات عدة أولها: من أول من كتب عليها؟ وهذا يجري مجرى السبق كما أشرنا إلى شيء من كتاب نازك “قضايا الشعر المعاصر”، ولو شاءت الأقدار لِنَبْشِ بعض القضايا كما نُبِشَ في غيرها من الأمور وقعَّد حتى للبنية العروضية فسأفعل؛ ولكنني سأكتفي هنا بالوقوف عند اجتهادهم وقراءة مصير هذه الرؤية.
واختلفوا فيما يصح في التفعيلة وما لا يصح كاستخدام الصافي والمركب من البحور وتشكيلاتها، والتدوير، وعدد التفاعيل المسموح بها في كل سطر، وتعدد الأسطر ومتى يمكن للشاعر أن ينتقل للسطر التالي حتى مع عدم اكتمال السابق، …إلخ.
فرضيات القواعد
الشعراء لا يعرفون فرضيات وقواعد واجتهادات لا تتماشى وفق هواهم، فمتى انطلقوا لم يتوقفوا عند ذا وذاك، فقد صيَّروا من قضايا الخلاف رجحانًا لكفتهم ومتى ما مالت الكفة مالت القاعدة وتهاوت الفرضية في حضرتهم و تَشَهَّت الاجتهادات وفق مبانيهم. لهذا فقد أحدثوا الكثير من الأمور مما لم يكن جائزًا وفق العروض الأكاديمي، ومن ضمنها على سبيل المثال: كثرة مجيء المتغيرات “استخدام أضرب عدة” حتى أن البعض قال بجواز استخدام ثلاثة أضرب وما كَثُرَ فهو قبيح أو غير جائز ولم يسلم الأمر بذلك فجاء البعض بأربعة أضرب في قصيدة واحدة. منها أيضا: مزج تفعيلة بأخرى: و هو إدخال تفاعيل مغايرة لبنية القصيدة الأساس ولعلنا نعرفه بـ”بإيقاع الخروج”، وهو خروج النسق الموسيقي عما في بدايته، وقد كَثُرَتْ أيضًا التبريرات لمثل هذا، فخروج الشاعر من “مفاعلتن” إلى فاعلاتن” أو خروجه من “فاعلن” إلى “فعولن”، لا يمتنع موسيقيًّا ما لم يسبب نفرة سماعية، فالدائرة بحسب مبناهم؛ مقلوبة من بعضها، فتفعيلة “مفاعلتن” مقلوبة من “فاعلاتن”، و “فاعلن” من “فعولن”، بينما لو كان الفارق شاسعًا كأن تخرج القصيدة من “متفاعلن” إلى “مفعولاتُ”، فهذا الفارق قد يُشْكَل عليه، فلا تتوافر الشروط المعنية بالخروج هنا؛ و لا عناية موسيقية في المقاطع وتجاورها، وفق قاعدة قديمة لعلها للأخفش إذ أشار إلى الحسن من الزحاف والقبيح بحسب تجاور الأسباب والأوتاد، بعكس ماكان عند الخليل، فيحدث أحيانًا أن الخروج من تفعيلة إلى أخرى -من نفس القصيدة-، غير متناسق المقاطع لذلك يعتني من جوَّز هذا كثيرًا بالتجانس وبالتجاور؛ وأعني بالتجاور تجاور الأسباب والأوتاد لا تجاور التفعيلة.
علاقة التدوير بالخروج الموسيقي.
قال ابن رشيق في عُمدته معرفًا البيت “المداخل”: “والمُداخَل”، من الأبيات ما كان قسيمه متصلًا بالآخر، غير منفصل منه، وقد جمعتهما كلمة واحدة، وهو المُدمَج أيضًا.
ولا ضابطة هنا بحد علمي على طريقة رسمه ومن خلال التتبع في الكتب العروضية فهناك طرق عدة:
– أن يكتب البيت متصلا (شطر واحد)، دون فصل.
– أن يترك مايُدور كله في الشطر الأول ويكمل الشطر الثاني.
– أن يفصل الشطرين بحذافيرهما.
– أن يكتب بين الشطرين حرف (م)، تعبيرا على أن البيت فيه تدوير وهنا يختار بأن يجعل الثقل الأكبر في الشطر الأول أم الثاني.
هذا من بديهيات ما يُتعارف عن هذه الظاهرة، وإلا فمجالها يطول؛ وقد اقتصرت على هذه البديهية؛ لئلا يطول بنا المقام وحتى نأخذ منها قدر حاجتنا.
واختلف روَّاد المدرسة التفعيلية في التدوير ولكأنه قد عاث فيها فسادًا، فرفضته نازك وأبدت حدتها في عدم قبوله، فتقول في قضاياها ص٩٥ “فلا يسوغ للشاعر على الإطلاق أن يورد شطرًا مدورًا وهذا يحسم الموضوع*، بينما الطرف الآخر ولعله السيَّاب قد أقرَّها وذلك جلي حين كتب “أنشودة المطر”، بهذا الشكل:
مطر
مطر
مفا
علن
وإن اختلف روَّاد العمودي في طريقة كتابته “التدوير”، من دون الإخلال في وحدة الوزن، فقد اختلف التفعيليون كذلك مع الإخلال بالوحدة الموسيقية! وراحوا يتساءلون: من أين نقسِّم التفعيلة؟ هل من نصفها؟ أم من أول ساكن؟ أو أن هذا الأمر يحدده الشاعر؟ كما في طول السطر وقصره فمتى ما احتاج الشاعر للتدوير كان وإلا فلا.
إذ كان من اختلافهم هذا وصمة خروج واضحة في موسيقى القصيدة وقد كثر في تفاعيل دون أخرى، وقد أدَّى بطبيعة الحال إلى خروج موسيقي واضح للأذن العروضية وغير العروضية، فنرى على سبيل المثال لا الحصر هذا التطبيق:
فعولن فعولن فعو
لن فعولن فعولن فعو
لن فعولن فعولن
سنعيد تشكيل التفاعيل:
فعولن فعولن فعو
لن فعو / لن فعو / لن فعو
لن فعو / لن فعو / لن
نعدِّل التشكيل:
فعولن فعولن فعو
فاعلن فاعلن فاعلن
فاعلن فاعلن فعْ
لعل هذا أقرب وجهة للخروج الموسيقي ممن قال بمقلوب التفاعيل وتأثير الدوائر عليها.
يقول الصديق العزيز الشاعر فاضل الجابر في قصيدته “الملاعين”:
الملاعين يأتون من حيث يأتي النهار، يغص بما خلفته الليالي، شجارا،
عواء، نحيبا، خوارا
أحاول أن أحتويني
فلو قرأنا النص لوجدنا أنه على “فاعلن”، غير أننا لو حاولنا إنهاء المقطع على “خوارا”، وفي ظني هذا ما يريده الشاعر، فإننا سننتقل إلى “فعولن”، والعكس صحيح فتأمل!
والشواهد مستفيضة، ارتأيت كفاية هذا الشاهد من ديوان الفاضل الجابر “وحيدًا في امتداد خطاك”، وأشير إلى وجود هذه الظاهرة كثيرًا، فأرجو أن يراجع القارئ العزيز أي قصيدة تفعيلة على “فاعلن”، أو “فعولن”، وأنه لاتخلو منه قصيدة في عصرنا الحديث، وعلى هذا فقد راجعت دواوين كثيرة قبل طبعها و وجدتها مثبتة فيها.
همسة
علينا أن نفتش عن هذه الظاهرة لا عن جوازها من عدمها! لكثرة مجيئها وكذلك لعدم تعمد الشاعر هذا الخروج! هذا على الأقل ما أعرفه وما عايشته، حتى في حال تعمده فهي ظاهرة بحاجة إلى إحاطة.