عظمة الدنيا وحقارتها
صالح مكي المرهون
الدنيا عالم ومرحلة من مراحل الوجود يعيش فيها الإنسان، وينتقل بعدها إلى مرحلة أخرى، والدنيا هي كل هذا العالم الذي نحسه وندركه من سماء مادية وأرض وطعام ومال وراحة وتعب وعلم وجهل وهكذا.
الإنسان وجد في هذه الدنيا ليعمرها ويصلحها كما يصلح نفسه ومن حوله، إلا أنه ربما يميل إلى كفة الشيطان وينحرف في سلوكه وأخلاقه عما هو مقرر ومفترض عليه، فينظر إلى الدنيا على أنها رحلة نهائية، وهي دار زوال وفناء، فتقف الدنيا في هذه الحالة في طريقه إلى الآخرة بدلا من أن تكون طريقه إلى الآخرة، ولهذا ورد الذم في كتاب الله الحكيم وأقوال رسول الله الأعظم وأهل بيته لهذه الدنيا تحديدا، أي أن ما يقصده القرآن وأهل القرآن عند ذم الدنيا هي الدنيا التي تقف في طريق الآخرة، لا الدنيا التي يمكن أن يستفاد منها للآخرة، فيجب الحذر هنا من اختلاط المفاهيم عند استعراض مثل هذه الآيات والروايات.
والدنيا دار فناء وغرور، أما مايقوله العلماء الأجلاء: أن الدنيا لاتغر لأنها أرتنا المقبرة والمستشفى، أي أرتنا الحالات القبيحة منها والحسنة.. فهذا كلام خاطئ، فالدنيا تدعو الإنسان لأن يتعلق بها في كل لحظة وفي كل ظرف. ألم ترى أن الإنسان في أحلك الظروف يفضل الحياة على الموت، والموت أنفع وأجدى له في ذلك الظرف، إذا غضضنا النظر عن دينه وما إلى ذلك.
والحياة تغر في أنها تزرع حبها في قلب البشر، وتجعلهم شغوفين بها أشد الشغف، حتى إذا ما عبست قليلا بوجههم أصابهم ما أصابهم من الغم حرصا على إشراقة وجهها هذا، ولكن الدنيا لا تغر الإنسان العاقل الحكيم الذي يرى وجه الحقيقة المشرق دائما خلف هذا الوجه، ويعلم أن هذا الوجه زائف وزائل، هذا الذي لا تغره الحياة الدنيا، أما من غرته فإنه لا يرى غير وجهها، ولا يعيش إلا لأجل حبها والفوز بها، وهنا المفترق، فإما عمل وإيمان لوجه الله أو لوجه الدنيا.
والأعظم والأدهى من ذلك، حتى دين الله يغر، فقد يكون اتباع دين الله ظاهرا سببا لأن يجعل المنقادين إلى الله والمحسوبين على دينه يميلون إلى معصية الله، فإن حبائل الشيطان تمتد حتى في الإيمان والتقوى، وحتى في الدمعة التي يسقطها ناسك يتعبد أطراف الليل وأطراف النهار، فالشيطان يعرف خبايا النفس ودليل طرقها، وعندما نحب الدنيا ونستعرض في هذا الحب، فإننا سننظر إليها على أنها لعب ولهو وزينه وتفاخر وتكاثر كما عبر القرآن الكريم، وهذه طبعا نظرة أهل الدنيا وليس منطق الله سبحانه وتعالى، فالحياة أكبر من هذه المفاهيم، والمفاهيم المذكورة هي علامات من علامات الحياة، وليست غاية، والأمر تحكمه غاياته، فالحياة هي إصلاح وطاعة الله ورضاه إجمالا، إذن عندما يذكر القرآن أن الحياة لعب ولهو… لا يمكن أن تكون هذه المفاهيم غاية للحياة الدنيا، وليست هذه نظرة الله للحياة الدنيا كغاية، نعم يمكن أن يكون اللهو والزينة والتفاخر والتكاثر هي تعبير عن الانتقال المرحلي في حياة الإنسان وما يتبعه من انتقال نفسي في الرغبات، ويمكن اعتبار هذا تفسيرا ثانويا للآيات الناصة على ذلك، وعموما هذا الأمر لا يفصل أهل الدنيا عن أهل الآخرة، لأنه لا يحمل حرمة، إنما الذي يحمل الذم والحرمة هو النظر إلى الدنيا على أنها لهو ولعب.. ولأهمية ذلك في السلوك، وحتى يتضح المراد ينبغي الوقوف عند هذه المفاهيم باختصار، فأقول اللعب قد يكون أمرا طبيعيا، وقد يكون سلوكا منحرفا، فالطفل الذي لم يصل إلى مرحلة من النضج العقلي كي يتصرف وفق أولويات عقائدية معينة وطرق تشريعية معينة هو يلعب بما يستطيع لما يريد دون التفكير في التحكم في رغبات النفس وهذا أمر طبيعي في هذه المرحلة، ولا يحمل بالتأكيد أي حرمة، وبالتالي هذا ضروري للطفل، أما غير الطفل والذي ينتقل عشوائيا بين أمور الحياة طلبا لإشباع رغبات غريزية معينة فهو لعب وسلوك منحرف، لأن هذا الأمر يحدث عندما لا يكون هناك مركزية فكرية مدبرة نيرة في داخل الإنسان أو عقل حكيم، بل يعيش عشوائية فكرية متخبطة بين أفكار بسيطة، ويحدث هذا السلوك كذلك عندما لا يكون هناك هدف سام يرجوه. أو طرق منيرة يسلكها، فهذا اللعب غير ذاك اللعب، واتخاذ الدنيا لعبا بهذا المعنى هو انحراف في السلوك.