تحديات في قراءة السيرة النبوية
الشيخ حسن الصفار
ظاهرة ثقافية بارزة لفتت نظر الباحثين والمتابعين في الاجتماع العربي والإسلامي الحديث، هي الاقبال الكثيف على كتب السيرة النبوية تأليفًا وانتشارًا.
فرغم أن الكتابة عن سيرة رسول الله (ص) منذ بدأت في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، لم تتوقف في أي عصر وجيل من تاريخ الأمة، بل استمر العلماء والمؤرخون في كتابة السيرة النبوية عصرًا بعد عصر وجيلًا بعد جيل، لتتشكل مكتبة واسعة حول السيرة النبوية في مجالاتها المختلفة.
إلا أن هذا العصر الحديث شهد إقبالا لافتًا على هذا الصعيد، يقول أحد الباحثين: طما سيل التآليف الحديثة في سيرة النبي، ولم يُقبل المؤلفون والقراء العرب على موضوع كما أقبلوا على سيرة الرسول الكريم وخاصة منذ العقد الثالث من هذا القرن (القرن العشرين) وقد بيّن الدارسون أن المؤلفات الحديثة عن الرسول محمّد (ص) فاقت ما ألف عنه خلال كل القرون الخالية. الثلاثة عشر قرنًا الهجرية السابقة.
ومن دلائل الإقبال الشديد على كتب السيرة من قبل الناس، أن أعيد طبع بعضها مرات عديدة، إذ طبعت (حياة محمد) لهيكل من أول طبعة عام 1935م أكثر من خمسة عشر طبعة. وقد ذكر هيكل في مقدمة الطبعة الثانية: (نفدت طبعة هذا الكتاب الأولى بأسرع من كل ما قدر لها، فقد صدر منها عشرة آلاف نسخة، نفد ثلثها بالاشتراك في الكتاب أثناء طبعه. ونفد سائرها خلال ثلاثة أشهر من صدوره، … وموضوع الكتاب هو السبب الأول في الاقبال عليه لا ريب).
كما أكد الدكتور أحمد السعيد رئيس بيت الحكمة في الصين، أن كتاب حياة محمد، للدكتور محمد حسين هيكل الذي ترجم إلى الصينية طبع 38 مرة بطبعات مختلفة.
وكذلك كتب الدكتور الشيخ محمد سعيد البوطي في مقدمة كتابه (فقه السيرة) الطبعة الثانية ما يلي: (وما كنت أتوقع يوم ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب أن تنفد نسخها في هذه المدة اليسيرة، وأن تجد ما وجدته من الإقبال في مختلف البلاد العربية والإسلامية).
وقد توالت طبعات كتاب الشيخ البوطي حتى صدرت الطبعة الثالثة والأربعون من الكتاب عام 2019م عن دار الفكر العربي – دمشق.
وقد طبعت سيرتا عباس محمود العقاد (عبقرية محمد) ومحمد أحمد جاد المولى (محمد المثل الكامل) أكثر من عشر مرات.
تفسير ظاهرة الإقبال على السيرة
ولا تفسير لهذا الإقبال الشديد من قبل أبناء الأمة على السيرة النبوية، إلا نفوذ محبة رسول الله (ص) في نفوسهم، فالإيمان والحب العميق لرسول الله (ص) هو ما يبعث في نفس المسلم الشوق واللهفة للاطلاع على أخبار حياة رسول الله (ص)، والتعرف على ملامح شخصيته، وما يرتبط بآثاره وسيرته.
وهو أمر وجداني فطري، حيث ينجذب الإنسان إلى ذكر من يحبه ويُعظّمه، ويحرص على الاحتفاظ بذكرياته وصوره وآثاره.
وإضافة إلى هذا البعد الوجداني العاطفي، هناك البعد التشريعي، فسيرة الرسول (ص) وسنته مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وكذلك البعد التربوي والأخلاقي، لأن قراءة سيرته تحفز لاتباعه والاقتداء به، حيث أمر الله بذلك فقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
لكن هناك أمرًا أساسًا قد يكون العنصر الأهم في تفسير هذه الظاهرة المعاصرة، وهو تحدي الهوية والانتماء، حيث تواجه الأمة في هذا العصر، محاولات مسخ هويتها الدينية، وإضعاف انتمائها الحضاري، بتأكيد ثقتها بدينها، وتمسكها بالولاء للنبي محمد (ص)، وذلك مصداق لما امتن الله به على نبيه (ص) بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
التشكيك في السيرة النبوية
وتسعى بعض الجهات المناوئة للإسلام بالتشويش على هذه الظاهرة بإثارة التشكيكات والتساؤلات حول مدى صحة ما ينقل من السيرة النبوية، ومستوى الثقة بمصادرها التاريخية، لكي تصرف أبناء الأمة عن الاهتمام بالسيرة النبوية، لأنها – حسب قولهم – تحتوي على أساطير واختلاقات، وتتضارب رواياتها وأقوال مؤرخيها في كثير من أحداثها ووقائعها. وكان للأهواء السياسية والمذهبية دور في صناعة وتحريف أخبارها.
وقد طرح بعض المستشرقين هذه التشكيكات، وتفاعل معها وتبناها بعض من فقد الثقة بدينه وحضارته من المسلمين.
إن معالم شخصية رسول الله (ص) والخطوط الرئيسة في سيرته قد حفظها القرآن الكريم {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
لكن ما تناوله القرآن الكريم من السيرة النبوية، جاء في سياق منهجيته المميزة في عرض القضايا والوقائع التاريخية، بالتركيز على موقع العبرة والدرس، وتبيين الحكم والموقف، بما يحقق الهدف القرآني الأساس، وهو الهداية والتنوير.
أما ما نقله الرواة والمؤرخون من السيرة النبوية، فكأي حدث تاريخي يتعرض نقله للآفات المختلفة، كما قال الشريف الرضي:
وَهُمْ نَقَلُوا عَنِّي الَّذِي لَمْ أَفُهْ بِهِ
وَمَا آفَةُ الأَخْبَارِ إلا رُوَاتُهَا
ونحن نجد كيف أن الأحداث المعاصرة، مع توفر وسائل التوثيق والاثبات، من تغطية إعلامية، وبث مباشر، وتقنيات دقيقة، إلا أنها أيضًا تتعرض للاختلاف والاختلاق والتحوير والتزوير.
لكن عقلاء البشر في كل المجتمعات لا يصرفون النظر عن الأخبار والروايات التاريخية، ولا يسقطونها من الاعتبار، لوجود هذه الآفات والاحتمالات، بل يضعون معايير ومقاييس لفحص المرويات، ويقبلون منها ما يتمتع بدرجة من الثقة والاعتبار.
ولأن هذا التراث النبوي تم ضبطه وتناقله ونشره بجهد بشري، فمن الطبيعي أن تلحقه بعض الآفات، وأن تظهر فيه بعض الثغرات ونقاط الضعف والخلل.
خاصة وأن مرحلة التدوين للحديث والسيرة النبوية جاءت متأخرة زماناً عن عهد رسول الله (ص)، مما يعرّض النقل الشفهي والسماعي لآفة النسيان واحتمالات الخطأ والاشتباه. إضافة إلى وجود دواع سياسية ومصلحية للوضع والتزوير والتحريف، فيما ينقل من حديث رسول الله (ص) ووقائع سيرته وحياته.
جهود تنقيح السيرة
لكن علماء الأمة بذلوا جهوداً مضنية لوضع معايير ومقاييس، وتنظيم قواعد وضوابط، لفحص هذا التراث الضخم، الذي يضمّ مئات الآلاف من الأحاديث والروايات والنصوص التاريخية المنقولة. وفرز ما يتمتع بمستوى الاعتبار والصحة، عمّا يتضح زيفه، أو يشك في اعتباره وصحته.
ولا تزال هذه الجهود العلمية متواصلة مستمرة في بحث وتحقيق التراث النبوي، ضمن مدارس المذاهب الإسلامية المختلفة في اجتهاداتها وتوجهاتها، والتي تتفق على مرجعية السنة النبوية إلى جانب القرآن الكريم.
نقد التراث بين الموضوعية والمذهبية
بقي أن نشير إلى أن بعض الباحثين من المسلمين في السنة والسيرة النبوية، يحصر مجال نقده للمرويات في تراث المذاهب الإسلامية الأخرى غير مذهبه، ويغض الطرف عما يستحق النقد في تراثه المذهبي، وهنا يكون النقد والتمحيص في سياق الإدانة والاتهامات المتبادلة في الصراع المذهبي، أكثر من كونه لغرض اجلاء الحقائق، وخدمة المعرفة الدينية، فتراث كل المذاهب الإسلامية يعاني من حالات التحريف والوضع والاختلاق، وحريٌّ بكل باحث محقق أن يبدأ بتنقية تراث مذهبه، لكن عواطف الجمهور المذهبي تشكل عائقا ضاغطا على الباحثين، لا يتجاوزه إلا القلة من المخلصين الشجعان.
إذ حينما ينقد الباحث تراث المذهب الآخر يصبح بطلاً في نظر جمهور مذهبه، فهو ينافح عن العقيدة، ويفضح الباطل، أما إذا انتقد تراث مذهبه، فقد يرونه ضالاً منحرفاً وقع تحت تأثير الآخرين وإغراءاتهم.
السيرة في موقع الاطمئنان والثقة
ويمكن القول بثقة أن بين أيدينا معلومات وافرة عن حياة رسول الله (ص)، يمكن الاطمئنان إليها، لوجود قرائن وشواهد على اعتبارها وصدقها، ولأنها تتوافق مع الملامح والخطوط العامة التي ذكرها القرآن الكريم حول النبي (ص).
والمطلوب من المسلم إن كان يمتلك أدوات البحث والتحقيق، وأراد أن يتأكد من مرويات السيرة النبوية، أن يبذل جهده للوصول إلى الحد الممكن مما يطمئن إليه ويثق به، على ضوء ما أثبته القرآن الكريم من ملامح شخصية رسول الله (ص) ومعالم سيرته، وعلى ضوء معايير النقل التاريخي التي يعتمدها العقلاء.
أما المسلم العادي فبإمكانه الاطمئنان إلى ما كتبه العلماء الذين يثق بخبرتهم وكفاءتهم، حيث قاموا بالبحث والتحقيق واستفادوا من تراكم التجارب في كتابة السيرة النبوية.
نماذج عصرية في كتابة السيرة
ويمكننا الإشارة هنا إلى بعض النماذج المعاصرة في كتابة السيرة النبوية، فمن كتابات علماء الشيعة نذكر كتاب (سيرة المصطفى نظرة جديدة) للسيد هاشم معروف الحسني، وكتاب (لأول مرة في تاريخ العالم) للمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي، وكتاب (السيرة المحمدية) للمرجع الشيخ جعفر السبحاني.
ومن كتابات علماء السنة نذكر كتاب (فقه السيرة) للشيخ محمد الغزالي، وكتاب (فقه السيرة) للشيخ محمد سعيد البوطي، وكتاب (السيرة النبوية) للشيخ أبي الحسن الندوي.
هذه نماذج – لا على سبيل الحصر – لكتابات تقدم صورة إجمالية عن السيرة النبوية بلغة معاصرة، أما تفاصيل السيرة النبوية، فهناك مصادر وموسوعات كثيرة.
ونؤكد أخيرا على ضرورة اهتمام كل مسلم بقراءة السيرة النبوية، وعلى استحضار سيرة رسول الله (ص) في نفوسنا وأجواء ثقافتنا العامة.