عنصر فاسد في هيئة مكافحة الفساد
حبيب محمود
لم يقبض ريالاً واحداً، ولم يُدعَ إلى “ذبيحة”، ولم يحصل إلا على شكر شفاهي. ومع ذلك؛ لم ترحمه هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وأوقفته هو وشريكاه، ورتّبت على ما فعلوه إجراءً محاسبياً صارماً. وحسب البيان الذي نشرته الهيئة، قبل يومين، فإن “أحد منسوبيها”؛ تلاعب بقضية فساد على صلة بقريب له ومسؤول قسم التعديات في بلدية من البلديات.
هذا التلاعب جاء بناءً على “رجاء وتوصية”. أي دون أي مقابل مالي يمكن أن يُسمّى “رشوة” في النظام، أو “مكافأة” أو “إكرامية” في العرف الأعوج. وبمفهوم السائد لدى الناس، إنها مجرد “واسطة”. وكثيرٌ من الناس ـ ربما ـ عدّوا هذا النوع من “الواسطة” من “أفعال الخير” الداخلة ضمن “الفزعة”، أو “صلة الرحم”..!!! وعلينا ألّا نعجب؛ فكثيرٌ من الناس لديهم هذه النوعية من التفكير وتخريج الأمور على غير ما هي عليه، قانوناً وأخلاقاً..!
لم يقبض الرجل ريالاً واحداً؛ ومع ذلك؛ وضعته هيئة الرقابة ومكافحة الفساد على رأس الموقوفين في قضايا الفساد، عشية إعلانها عن مباشرتها 123 قضية جنائية. وسبقت الإشارة إليه قضايا فاسدين كبارٍ، بينهم فريق استولى على أكثر من 400 مليون ريال..!
الرسائل الواضحة التي أرادتها الهيئة متعددة وواضحة جداً:
منها تأكيد أن أسّ الفساد يكمن في “تجاوز النظام”، سواء ارتبط هذا التجاوز بمكاسب مباشرة أم لم يرتبط. موظف الهيئة تلاعب بقضية دون مقابل سوى “الرجاء والتوصية”، وهذا فساد قائم على “تضارب مصالح” الإجراءات و “مصالح” قريبه” ومسؤول البلدية.
ومنها أن “الواسطة” التي كانت دارجةً ومسكوتاً عنها، بل ومرضيّاً عنها، ومخلوطاً مفهومها بمفهوم “الفزعة”؛ ليس لها مكان في أي إجراءٍ. ومفاهيم “حب الخشوم” و “الشفاعة” المغلوطة و “أدبيات” العلاقات الشخصية؛ كل هذه المفاهيم سقطت أمام “مسطرة” المحاسبة الصارمة.
الرسالة الأكثر عُمقاً في بيان الهيئة؛ هي أن العاملين فيها يجب أن يكونوا مثالاً للنزاهة أصلاً، وتجاوز أي منهم يُشير إلى وجود شرخٍ خطير في تنفيذ معايير النزاهة، وبالتالي؛ فإن الأولى أن تبدأ الهيئة بنفسها في محاسبة أعضائها حين يتجاوزون، فحين يكون القائم على المحاسبة فاسداً؛ فإن ذلك يعني انهيار المؤسسة أخلاقياً. لا يُمكن أن تنهى عن خلُق وتأتيَ بمثله في الوقت عينه..!
خطاب هيئة الرقابة ومكافحة الفساد هو خطاب دولة، وليس خطاب مؤسسة فحسب. وخطاب الدولة الإصلاحيّ؛ لا يُحاسب الفاسدين فحسب، بل يسعى إلى إسقاط المفاهيم المغلوطة السائدة من “تفكير” الناس، ليُعيدوا حساباتهم للأمور على أساس “مسطرة النظام”، الحاسمة التي لا تفرّق بين كبير وصغير، ولا تُعطي حظوة لضابط برتبة فريق، وتضرب بقبضتها موظفاً صغيراً ارتشى بألف ريال..!
المسطرة واحدة.. وقُضيَ الأمر.