رماد الأحلام هكذا قالوا.. وهكذا رأينا
عبدالله عصام الشماسي
“تكبر و تشوف” أو “و بعدها حدثت الحياة” كما هو في التعبير الإنجليزي المعروف. هذه طبيعة الأمور يُقال لنا. حين نكبر سنرى بأن المجال للأحلام يضيق، حماسنا يضمحل حتى ينطفىء. لكننا حين ما قيل لنا هذا الكلام رفضناه من أول هذه الأحكام. بهز الرأس أو لمز اللسان نقول بأن هؤلاء لا يفهمون و لا يدركون كيف نسعى نحن لأهدافنا، دعهم يتكلمون نحن سنكون مختلفين عنهم.
كلنا نعلم و يكاد يكون لدي يقين بأن كلنا سمعنا مثل هذا الكلام سواء قيل لنا أو قلناه. و دعني هنا، بدل أن استعرض نقاط الخلاف مع ما قاله لنا المجربون وأهل الخبرات يوماً، و هي كثيرة و أنا شخصياً اتفق مع الخلاف أكثر، لكني من أجل ممارسة الجمباز العقلي سأقف متضامنا معهم بل و أجد نفسي اليوم و لو جزئيا في نفس الحذاء الشهير……… فلا يوجد كليشيه يتردد كثيرا من دون بذرة حقيقة.
ألستم تتذكرون تلك الأيام؟ أيام الصغر، أيام الدراسة أيام الأحلام؟ ألم تكن دقات ساعاتها أبطأ من ساعات اليوم؟ ألا تتذكرون كيف كان يومنا تملاؤه الأحداث، من معلومات و محادثات و حصص و أشخاص جدد ؟ كيف تكسو الآن تلك الذكريات مشاعر حميمية تختلف تماما عن ذكرياتنا الأقرب؟ في أيامنا هذه، أيام العمل و الوظائف و المسؤوليات، نعيش روتين ثابت يتكرر تصبح نتيجته أيامنا واحدة لا نعرف أين ينتهي اليوم و يبدأ الغد، صماء فارغة ليس بها جديد أو متجدد. ربما لا يكون بهذا السوء، عواطفي قد تبالغ… و لكن… يظل الإحساس في محله. كانت أيام الدراسة مختلفة. تتلون بزهو الخيال، ترتسم بريش الأحلام. الحياة كانت أبسط، قرارتنا أسهل، آمالنا أعمق، أسقفنا شاهقة، أحلامنا أكبر، حدودنا السماء. و مسؤولياتنا سهلة، أهدافنا مباشرة: حصَّل الدرجة الضرورية، انهي هذا الاختبار أو ذاك، تجاوز بنجاح للحصول على رخصة القيادة، و غيرها على غرار هذه الأمور كثيرا.
السماء بالفعل، كانت قرمزية، و نجومها متلألأً و أقمارها مضيئة. كنا نجهل الكثير لكن نتطلع للمزيد. كان شعورنا بأن العالم كُله في أكفنا، كل ما ابتغيناه و تصورناه و حلمناه بوسعنا تحقيقه و الوصول إليه. كنا نناقش مختلف الرؤى للمستقبل، تصوراتنا كيف نسعى إلى أهدافنا النبيلة، أين سنعيش و كيف ؟ فكل عوائق “العالم” هي من صنع الوهم. هم، كبارنا و مجربينا، خانعين، تخاذلوا في أهدافهم، ملوا من متابعتها، لم يكن لديهم الطاقة الكافية لتحقيقها. حين تكون حالماً ، ترى الحياة بعيون تحترق بالطاقة، و ما حياة الطالب غير حلم الختام؟ و لكن… هناك شيء يحدث. شيء يتغير فينا. فنرجع لكلامهم، من ذاقوا الحياة و اعتادوها، أب أم عم أو خالة، ألم تسمعهم يوما يندبون حظهم؟ “كنا نتمنى هذا… كنا نرغب بأن نكون… نتمنى لو… حلمنا ب…” موسيقى إيقاعاتها حزينة، أوتارها تكاد تكون يائسة من أمانٍ و رغبات ماتت قبل تكونها، أُجهضت في مخاضها. كنا نقول في سرائرنا “لا… فأنا سأكون مختلفا.. لا أنا سأقف على منصة الحلم و أصارع!”
ما أن تنتهي تلك الفترة حين تبدو حقيقة مسارح الحلم. كنا جالسين في المقاعد، ضائعين في حكايات المسرح المثيرة، نريد و لو يأخذنا في طياته نحو واقع أحلى. حتى يتسنى لنا أن نرى ما وراء الستار: طرق الخداع، التخيلات السينمائية، الشاشات الخضراء. فندرك بمرارة ما كنا نعيشه. تبدأ شيئا فشيئا “الحياة” تبدل المسرح. نبدأ نرتطم بتلك العوائق. حقائق الأمور و صعوباتها: لقم العيش، فواتير الحياة و تراكماتها، الإيجارات على المعيشة، و تستمر اللائحة…. و كيف نتعامل مع هذه التغييرات؟
أولا، كما نعلم، نرفض هذه الحياة “لا يمكن أن تكون هذه هي!؟”. ثم نغضب، نُعيش الثورة على كل شيء و أي شيء، الناس المجتمع ثقافتنا الداعمة للفشل، قرارتنا، ربما والدينا فندخل تدريجيا في حالة تعاسة؛ تتفاوت في مداها من الخافت للمدمر. و بعدها ماذا؟
نستيقظ لنرى من زجاج النافذة السماء لا لون لها، و لا نجوم أو أقمار في أفقها، و اليوم أصبح مثل البارحة، ننتظر نهاية الأسبوع أو آخر الشهر أو إجازة السنة، نعيش لا لحلم، نسعى ليس لهدف، إنما لراتب ينزل في حساب بنكي بسيط نصرف منه لننتظر الراتب الذي يتلوه، نضحي بكل ما حلمناه لأجل تحقيق استقرار و آمان مريح يضمن لنا المعيشة و لو كانت بسيطة. بعضنا يتكيف و يعمل و يجد فيعيش مبسوطاً مرتاحا ليس لإسمه إنجاز يذكر غير ما اعتدناه من الحياة العملية الروتينة. القناعة تبدأ تحدد خطوط حياتنا.
و البعض يرفض الروتين و يتشبث بمسرح الحلم فيحلق حتى يهوي، فنهز رؤوسنا عجبا لهذا الطيش “لما تركت الأرض المستقرة و ذهبت للسماء العصوف؟”
ننسى من كنا و كيف تمنينا أننا حلقنا و واصلنا، و لكن استقرارنا راحتنا أصبحا أعز من أحلامنا. و بتلاشي الحلم نتلاشى نحن. ليأتي يوم نقول فيه “اه.. كنتُ يوما آمل أن أصبح…” “كنت أرجو لو صرتُ…” و يهز الطالب الحالم حينها رأسه و يطلق هو لسانه “لن أصبح مثلك… مستحيل… أنا غير”
نعم عزيزي حتى أنا كنت آمل لو كنت من الأغيار…. و لكن تكبر و تشوف…