[3 من 3] دفاعا عن الحق لا دفاعا عن الرئيس الفرنسي: نقد الجمهورية ونقد الإسلاموية

جهاد الخنيزي

 

تبرز صعوبة هذه الحلقة في تحديد ما هو النقد وما هي علاقته بالموضوع. إذ لا شك أن النقد الحقيقي لا يمثل الرد أو الهجوم على الآخر بل استيعاب الموضوع ضمن رؤية مغايرة أكثر عقلانية. والعقلاني يوازي التحليل المنتج للأفضل، فالهدف أو النتيجة متضمنة في النقد ومغيرة لاتجاهات الموضوع لا الموضوع نفسه لضرورة بقائه كي يبقى للنقد محلٌ. وهذه عملية فكرية عميقة لها أدواتها المعرفية والمنطقية.

هذا ما يجعل قياس الكلام من الطرفين هل بلغ حد النقد الحقيقي أو التراشق بالكلام لأغراض سياسية.

لم يكن ماكرون رجل فكر وثقافة ليقدم قراءة عميقة عن الإسلام والجمهورية واللائكية لذا وجدناه عاجزا عن تحليل القضايا بعمق. ربما لأنه ليس مثقفا على الطريقة الفرنسية أو لأنها مواضيع شائكة ومراجعتها الفكرية مهمة شاقة. ولكن هذا لا يعفيه من المسؤولية طالما دخل في هذا الجانب. وينطبق هذا على المدافعين عن الإسلاموية باسم الإسلام حينما يكون الرد قدحا أو سبابا أو نقلا للموضوع من زاوية إلى أخرى. إنه تكريس للضعف وتهرب من الاعتراف بأن المفاهيم مختلطة بين المذهبية الفكرية والإسلام، والتداخل بين الدين والسياسة في الإسلام حَوَّل الكثير من التجارب السياسية إلى فقهيات شبه ثابتة.

لننظر الآن كيف مارس الطرفان النقد. فقد انصب مجال النقد عند ماكرون على الجمهورية في مجالين:  الأول: التقصير والجبن

“نحن أنشأنا الظروف الخصبة لهذا الواقع.. كانت للجمهورية سياسة بنت وكثفت المآسي والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تقهقرنا في بعض الأحيان من خلال جبننا بنى هؤلاء مشروعهم في بعض الأحياء الفرنسية في شكل ممنهج”.

والحل لديه باسترجاع ما فقدته الجمهورية من خلال حشد إمكانيات الجمهورية كلها، والجمعيات، والمدارس، والأمن والقضاء.

ويظهر بوضوح الاستقواء بالدولة القوية على الجماعة الصغيرة المتطرفة والخطرة.

وبطريقة ذكية ابتعد عن سؤال لماذا فشلت اللائكية في أن تبني جمهورية أكثر حرية واندماجا وأكثر قبولا لكل التنوعات بما فيها الإسلاموية. إن اللائكية كعدم تدخل الدولة في الدين وتركه للناس تواجه بهذا المنطق معضلة فكرية وهي فشلها المطلق كنظرية أخلاقية أيضا ومثالها القريب مدرس يعرض رسوما ساخرة عن النبي محمد (16 أكتوبر) وطالب يقتله انتقاما بطريقة بشعة بما يكرس العودة لنفس الإشكالية فلم تمنع الجمهورية القانونية ولا اللائكية الاثنان من ممارسة البشاعة التطرفية وانتهاك الخصوصية واحترام العيش المشترك. وفضلت الجمهورية أن تصمت على أن تندد بالحرية اللا مسؤولة وتنادي بمبدأ العيش بالمسؤولية الأخلاقية.

هذا يعني بأن الأسس المنطقية للعلمانية واهنة أو متحيزة أو أنها ليست من الأشكال العقلية الصارمة بل من التشكلات النفسية للحسن والقبح لما نحب أن يكون وما نكره أن يكون، ثم نترك لكل شخص أن يحدد ما يحق له وما لا يحق.

الثاني: التاريخ الاستعماري للجمهورية الذي لم تستطع أن تتخلص من تبعاته وسمَّاه بالصدمات.

“نحن بلد لديه ماض استعماري.. ونعيش صدمات مازلنا لم نجد حلولا لها، وهي صدمات أساسية في نفسيتنا الجماعية، في مشروعنا. حرب الجزائر من بين هذه الصدمات.. بعض أطفال هؤلاء يعيدون صقل هُوياتهم على ضوء التاريخ الاستعماري على الرغم من أنهم لم يعيشوا الحقبة الاستعمارية”

يبدو الكلام صعبا شيئا ما على العقل التجريبي ونشوء مجتمع الجمهورية واللائكية، صاحبة شعار حقوق الإنسان، فهنا صدمات استعمارية وهُويات مضادة للجمهورية مازالت فاعلة وشعبها خاضع لها ليس فقط كضمير بل كوجه عدائي يتصنع في الطرفين معا (المستعمِر والممستعمَر).

ويبدو الفشل واضحا في الخطاب فهو لم يقدم حلا للهُويات الانفصالية بل كرسها، ولم يقدم اعتذارا بل مجرد افصاح لإراحة الضمير، ولم ينتبه أن اللائكية الفرنسية بطريقة تفكيره تنفي من لا يؤمن بها ذهنيا، وتعاقبه وجوديا، ثم تنتقم منه حين يستنفع منها. هذا يعني أن الجمهورية تنتج اللاجمهورية، واللائكية تنتج نقيضها اللائكي الذي لا يؤمن مطلقا بفصل الدين عن الدولة. وفي الاجتماع السياسي حين تتكون النماذج المسيطرة لا تختفي بسهولة.

تكمن المشكلة إذن ليس في أن تنتقد ولكن ماذا تنتقد، ولماذا، وبأي مستوى، وما الذي نسكتُ عنه مع أنه يستحق النقد ولماذا ننقد الشكليات ونصب الغضب على القصور والجبن وصدمة الاستعمار ولا نحل المشكلة جذريا كفكر وقانون ما يجعل الجمهورية تتحسس من انعزالية فصيل إسلاموي صغير.

“والمشروع الانفصالي الإسلاموي هكذا سميته يتحرك في بعض الأحيان من الدين في مشروعه، هذا المشروع الإسلاموي الإنفصالي يمزج بين هذه العناصر ويجب أن نواجهه بإصرار  وصمود”

إن هذه المعادلة تبدو مدهشة، أصنع نظاما نافعا ثم اتهمه بأنه ليس نافعا لفئة من المواطنين وذلك استنادا إلى حق اللائكية التي أعطت الحق مسبقا للآخرين، وأتغاضى عن انتهاك الجمهورية لمبدأ اللائكية فمنطق السلطة يفوق الحق.

هذا المنطق يتكرر على لسان مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الذي لم يتعامل مع الموقف من منطق الناقد الحصيف بل من نقد النقد، أي اثبات طهورية المنتقَد مع أن النقائض بين الإسلام والإسلامويات موجودة

” تنسف كل الجهود المشتركة بين الرموز الدينية للقضاء على العنصرية والتنمر ضد الأديان”، إنه توجيه للخطاب باتجاه مختلف لأنه لا يوجد سبب يجعل من نقد الإسلاموية نقدا للأديان وسببا للتنمر والعنصرية!

كما أن التعلل بالحياد كما ظهرت من كلمات بعض الأزهريين لا يجعله معتدلا ومتسامحا ومستوعبا للتنوع.

 لقد تناسى الأزهر أن التراث الديني فيه من هذا وذاك. أي من الممكن أن تجد العنف حاضرا بمنطق الديانة (وجهة نظر في الدين) كحالات عنف الخوارج وثورة الزنج والحشاشين والهجرة والتكفير والجماعة الإسلامية وطالبان وداعش وجبهة النصرة التي تقتل على الهويتين الدينية والسياسية فكفرت المجتمع والدولة معا.

لا يقتصر الأمر على الأزهر فالمطلوب من جمهورية الإسلام الفكرية بغض النظر عن الدولة أن تفصح عن رأيها في من هو الممثل الحقيقي للإسلام ومن هو الشاذ عنه، ففي ضوء وجود مدارس للإسلام السياسي تؤمن بالعنف كمبدأ فإن نقد ماكرون سيكون حقيقيا للحالة الإسلاموية المتطرفة الدموية بل يتعمم إلى الإسلام إن صمتنا وبالغنا في الصمت.

إن نقد الإسلاموية وكل مظاهر الشذوذ الفقهية ليست شيئا معيبا رغم ما يكتنفه من صعوبات في ضوء فكر المؤسسة التي تعيش في التاريخ لأنك تحاكم تراثا مرتبطا بتجارب سياسية وفقهية متعددة. وكل من اقترب منه ونقده وجد نفسه أسير هجمة شرسة كما حدث للمتنورين الذين ناقشوا التراث على ضوء النص، أو ناقشوا النص على ضوء الواقع بعيدا عن الفتوى.

إن النتيجة أيضا غير مضمونة ولكنها ضرورية على مدى طويل لأنها ستعيد فتح كل النقاشات حول العلاقة بين الوحي والعقل، مكانة الإنسان في الدين، الحقوق والواجبات السياسية والمدنية في الدولة، حقوق الأقليات، درجة الخطاب المعلن في الدين تجاه الآخر، فهم العلاقة الأبدية والدائمة مع الله في الزمان والمكان، وغيرها من المسائل التي تتعلق بالدين والمجتمع والدولة.

وليس من المقبول أن تسبق المؤسسة السياسية في التنوير المؤسسة الدينية.

لا يخلو إذن الأمر من صعوبات، على الطرفين أن ينطقا بالحقيقة كما هي حينما يختلط الدين بالسياسة. ويجد كلاهما أنه خرج من المجال الخاص به إلى المحرم في السياسة وفي الدين معا. فالفواعل الدموية سياسيا أو دينيا تفرض مناقشة كل المنظومة الفكرية للسياسة والدين ومقدار ما تفرضه العلاقة بينهما من اتحاد أو انفصال أو توازي وجود.

 ولكن ماذا لو قال ماكرون لمجلة شارلي ادلو وللمدرس الفرنسي اخطأتما في استخدام اللائكية لإهانة طائفة من المواطنين والمقيمين ثم قيدها بحق الاحترام الأخلاقي العام مستخدما سلطة القانون، وماذا لو قال الأزهر لماكرون أخطأت في ذكر الإسلام وأصبت في نقد الإسلاموية الانفصالية ومن حقك أن تطبق قانون الاعتداء على الفتى القاتل. لو حدث ذلك لما تكررت صناعة الأزمة التي يبدو أنها ستستمر طالما العقول لا تسلك الاتجاه الصحيح.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×