[موروث] تاروت ودارين.. الأمكنة وسردياتها في اللّفائف والحوليات القلاع والحرير ونينافيكتورفنا وموروث بيزنطة.. وما قبل كنيسة "ديرين"
حسن دعبل
تظهر بين فينةٍ وأخرى كتابات، ومقالات تتحدث وتبالغ بمكانة جزيرة تاروت، وعمقها الأقدم في التاريخ بما يُشبه الوعي الكامل، والمطلق في كتابة التاريخ، وتبالغ تلك الكتابات بالإسم الحائر بين الفينيقية كتصحيفٍ في تائها، وغياب عينها العشتارية، أو العثتارية في القِدم السبئي والحِميري، من غير أي استدلالات مكتوبة، وموثقة، غير تلك المعثورات والقبور، والتي تنسبها إلى سومريتها وبابليتها، وأكديتها الرافدينية، أكثر منها إلى نزعة الكتّاب، أو تأويلها الفينيقي من غير دلالات ومعثورات.
فما يثير الدهشة في تلك النزعة أيضاً، ما يسكن الوهم عن مدينةٍ قديمة ترقد عليها قلعتها البرتغالية، وما بُنيت حولها من بيوتاتٍ على أنقاض معبدها الفينيقي ذات البروج والقبور، والتوابيت، متناسية حقول البساتين، والنخيل المترامية على أطراف القصر، أو القلعة الباقية ببرجين من أصل أربعة بروج، ودراويز مُسماة بألقاب أهل ساكنيها، ودروازة أخرى صغيرة أسموها “الخادعة” للفقراء، يدخلون منها في الصباح بثمار بساتينهم، ويُطردون منها قبل سدول المساء.
جنة دلمونية
الجزيرة كجنة دلمونية في وهم الميثلوجيا تحتاج إلى حفرٍ وتأويل بمخيّلةٍ جامحة، وتحتاج إلى كتاباتٍ متسامية عن المعثورات واللّقي، والقبور المترامية على أطراف بحرها وسياجه، وما تتنازعه جغرافية الحضارات، والحقب التاريخية، لتلك المكانة المتسيّدة، والحلم الأبدي للخلود؛ قبل أن تُخلّد العشبة الدلمونية، ويرميها الطوفان، ويزرعها مخلّدة نائمة في جوف محارة قرب أرخبيلات لم ينبت بها الزرع، ويسقيها انكي بماء الحياة. فحتى صرخة جلجامش التائه في القفار، وفزعه من الموت والخلاص، ووحدانيته، والبحث عن جده الناجي من الطوفان في جزيرةٍ لا يشيخ فيها الشيخ، ولا المرأة يصيبها العجز، وترعى الشاة مع الذئب، ولا يُسمع نعيق الغراب.
تلك الصرخة كانت باب مشرّع المُخيّلة لجنة عدن؛ حلم الخلود الأبدي!
أما الدهشة الكبرى، فهي الكتب التي تُنشر بلا محاسبة للتاريخ وضمير كاتبه، وعماء بصيرته في سطوره، في سرقة الأمكنة، وقلب مواضعها حتى بالاسم والمكان. فهناك من سطّر في أحد كتبه التاريخية، عن بيت عبادة كنسي قديم، وبأثره المادي ولقيّه، فأسمى المكان: كنيسة تاروت!
وهو يقصد بها الأثر الباقي لكنيسة دارين المقدسة، أو المكان الكنسي لِما تبقى من الأثر النسطوري في تيرين، ومكانته الدينية في تلك الحقبة المضيئة من التاريخ.
غفوة التاريخ
الكتابات لا تُكتب هكذا، وبوعي اللّحظة وتأزماتها، وعماءها المناطقي، إن أحببناها أكثر إيلاماً ووضوحاً، أكثر منها دهشةً، وتعجباً!! حتى تلك الجماعات التي يعلو صوت صراخها بالتراث وسدنته، وهي تقتفي أثر الأسماء، والمُسميات المنسية لبساتين النخيل، ومن سكنوا بداخلها قبل أن تسورها الأسوار بجدرانٍ لبنية وطين البحر، وحجارته المحروقة بمصران سعفات النخيل. تعلو أصواتهم، وهم يقتفون همس خطواتهم التي لم تبتعد عن مسامعهم، وكأن الأبصار لم ترتفع برؤوسها إلا حيث علو القلعة الباقية من أثرٍ للتاريخ وغفوته.
فلماذا الحيرة في الغلو، إن لم نحفر التاريخ بمعاول التأمل والنبش، ونبتعد بحيرةٍ في مُسمى جزيرة، سواء سكنت البساتين، أو نامت في حضن البحر؟ التاريخ كفيل بسردياته ولفائفه، وشروق شمسه قبل الأفول. فالتسميات رسمتها جغرافية المكان قبل غيابه، وقبل من سكنه، أو لفوا إليه.
هكذا يجب أن تُكتب مُسميات هذه الجزيرة، وذاكرة أمكنتها البعيدة، من غير حساسية وبغضاء من كل الأطراف الراكضة بعماءاتها، ومن تحتار ذاكرتهم في التمييز، والمباغتة والخذلان في تقلب أمزجتهم، وقبولها لِما تحتار به أبصارهم في قراءة مدونات الكتب لإسم هذه الجزيرة.
لعلهم تناسوا مكانة هذه الجزيرة، أو بابها البحري. وهل للجزر بوابات غير بنادرها!؟
فلماذا تغيب في الكتابات هذه المكانة، وتحضر بقوةٍ في السّير والمدونات واللّفائف.
دارين
تحضر “دارين” كجزيرة كثيراً، ويرد ذكرها في المدونات، والكتابات، والسّير السريانية ولفائفها، وربما ذلك يعود إلى قدسية أبرشيتها أو كنيستها، وثراء المكان. حتى أنك تنسى أن هذا “البندر” الذي يُذكر في الشعر بمرور العابر ببجرِ حقائبه، لم يتغزل به سوى الأعشى وصاحبه “الجارود”، ومن تشتّا، وتسامر وسمر معهم في هذا البندر الشتوي لمن سكنه من أطراف عبد القيس، حاملة الهدايا والبخور والتمور. ويُستثنى من الذكر القساوسة والرهبان والمُشمّسين، ومن حمل أردية المعابد إلى أرض بابل.
تلك الأردية الحريرية التي يؤتى بها من الهند والسند، وتُحاك وتُنسج وتبارك عند أبرشيتها المقدسة، كما تُذكر في الوثائق والكتب النسطورية، ومجمعها الكنسي. وكلما إتسعت الرؤية في نبشها وتصفّحها، ضاقت العبارة في رسم خارطة المكان، وأهله وتشكلاته، وسلالاته التي سكنت، وغابت، وهُجّرت. ليصطبغ بالمكان، ولو من قبيل المباهاة، والمباهلة بهذا النسيج الواحد المُغيِّب لكل إرث لهذه البقعة، وما حلّ بها من أقوامٍ، وسلالات، وعابرين. فليكن المكان بعمقه التاريخي البعيد، وقوة حضوره الديني، وكما دون في اللّفائف السريانية، والحوليات البيزنطية، وعلى أعتاب الفتوحات الإسلامية، ومعاركها الأولى:
***
تشير المستشرقة الروسية “نينافيكتورفنا” اعتماداً على الحوليات البيزنطية بأن سبب موت النعمان ومحاولة الملك كسرى برويز إبادة أسرته المالكة تعود إلى أن كسرى برويز قد طلب من الملك النعمان أن يزوجه ابنته التي كانت آية في الجمال فرد عليه بالرفض قائلاً له: لن أزوج إبنتي لرجل ذميم العادات. فحقد عليه الشاه الفارسي وأراد تحقيره، فدعاه إلى خوانه (مائدته) ووضع أمامه الكلأ بدلاً من الخبز، فغضب ملك العرب، أي ملك المناذرة، غضباً شديداً وأرسل إلى بني عمومته من قبائل معد الحجاز، وسبوا مناطق عديدة من بلاد فارس حتى بلغوا عروب، أي النواحي الواقعة على المجرى الأسفل لدجلة وهي بيت عرباية. فحنق كسرى على النعمان وأمره بالمثول بين يديه، ولم يستطع أحد أن يحمله على ذلك. فقام رجل من جزيرة دارين ناحية البحرين، بالتآمر عليه مع الشاه كسرى، وقال للنعمان: إن الشاه يحبك، ولا يريد أذيتك.
كذلك قالت له الملكة معاوية زوجته: إن اللائق بك هو أن تموت وأنت ملك، لا أن تعيش طريداً محروماً من منصب الملك. وهكذا فقد ذهب الملك النعمان إلى بلاط الفرس ثم قضى نحبه فيما بعد مسموماً.
أسباب معركة ذي قار كما رواها شاهد العيان الراهب النسطوري
يروي الراهب النسطوري الذي لا نعرف إسمه، ولكننا نعرف أنه كان معاصراً لفترة الفتوحات الاسلامية، ووضع كتابه في حوالي 655 ميلادية، يروي قصة أسباب معركة ذي قار، ولكنه لا يتحدث عن المعركة ذاتها التي وقعت بعد مقتل النعمان، وهي رواية غاية في الأهمية لأنها أتت من شخص معاصر، شاهد عيان، أو سمع القصة من شاهد عيان، وهو يضيء على جانب من حياة النعمان بن المنذر اللخمي، ومدينة الحيرة حاضرة العراق في ذلك الزمن، واللافت المؤرخ يعطي النعمان لقب المعترف القديس الشهيد.
النص كما ورد في كتاب الراهب النسطوري بتحقيق المستشرق غويني:
مار يشوعيهب رئيس المسيحيين كان لايزال مغضوباً عليه من جانب الملك كسرى، لعدم مرافقته إلى بلاد الروم؛ فكان يتحوط كثيراً من الملك، وبعد برهة من الزمن نزل البطريرك إلى حيرة الطيايا (العرب) لرؤية ملكها النعمان الذي تعمد وتنصّر، فلما وصل أطراف الحيرة مرض، ومات في قرية اسمها بيت قوشي، فلما سمعت هند أخت النعمان بوفاته خرجت مع كهنة الحيرة، وقومها وحملوا نعش القديس باحتفال كبير ، ووضعته هند في دير جديد كانت قد بنته.
يقال عن كسرى أنه حين كان هارباً إلى بلاد الروم من بهرام، طلب من النعمان ملك الطيايا أن يرافقه، ولكنه رفض طلبه، كما رفض تزويده بجواد أصيل غالي الثمن، كما طلب يد إبنة النعمان، وكانت شديدة الجمال فرفض النعمان طلب كسرى، وأجابه: أنا لا أعطي ابنتي إلى رجل يتزوج على طريقة البهائم، وقد أضمر كسرى هذه الأمور في قلبه، فلما انتهت الحرب تنفس كسرى الصعداء، وصمم على الإنتقام من أعدائه، ومنهم النعمان. وفي أحد الأيام دعى النعمان إلى مأدبة، ووضع أمامه التبن بدل الخبز، فشعر النعمان بالمرارة، وبعث يشكو ذلك إلى قومه المعديين، فتحركت بلاد كثيرة، وأعلنت الحرب على كسرى، ثم زحفت جحافل المقاتلين حتى بلغت عرب، فحين سمع كسرى بهذه الأحداث تخوف، وحاول استمالتهم بكافة الطرق، ودعاهم إليه، فرفضوا دعوته، ولكن أحد المترجمين في قصر النعمان، وهو بالأصل من (جزيرة ديرين/ تيرين) يدعى “معن” اتفق سراً مع كسرى، وقال للنعمان: إن الملك يحبك واقسم على الإنجيل أنه لن يلحق بك أذى البتة، كما أن “ماوية” زوجة النعمان قالت له: حري بك أن تموت ملكاً من أن تعيش مطارداً منفياً بعد أن تفقد ملكك، فلما قدم القاعة الملكية لم يقتله كسرى بل طلب منه أن يلزم الباب، وفيما بعد يقال أنه دس له السّم، فمات هذا المعترف الصالح.
وربما الوثيقة الكنسية السريانية لعقد المجمع الكنسي عام 676م، برعاية جاثليق المشرق “كيوريكس” في جزيرة ديرين/ تيرين، ما يعطيها هذا المكانة الأسقفية:
في هذا الشهر أيار من السنة السابعة والخمسين لسلطة العرب، بعد زيارتنا للجزر وغيرها من الأماكن، بلغنا الكنيسة المُقدسة في جزيرة ديرين، التي نقع فيها الآن.
وﻣﻦ اﻟﻤﻌﻠﻮم أن ﻛﻨﯿﺴﺔ اﻟﻤﺸﺮق اھﺘﻤﺖ ﺑﺘﻨﻈﯿﻢ ﻣﺴﯿﺤﯿﻲ ﺑﯿﺚ ﻗﻄﺮاﯾﻲ. ﻓﺎﻟﺠﺎﺛﻠﯿﻖ ﻛﯿﻮرﻛﯿﺲ اﻷول ( 660- 680 م ) ذھﺐ ﺳﻨﺔ 676 م إﻟﻰ ﺑﯿﺚ ﻗﻄﺮاﯾﻲ، ﺑﻌﺪ أن زار اﻟﻌﺪﯾﺪ ﻣﻦ ﻣﺮاﻛﺰ اﻷﺑﺮﺷﯿﺔ، ﺣﻞّ ﻓﻲ ﺟﺰﯾﺮة دﯾﺮﯾﻦ، وھﻨﺎك ﻋﻘﺪ ﻣﺠﻤﻌﺎً ﺑﺮﺋﺎسته ﺿﻢ ﻛﻞ ﻣﻦ:
ﻣﻄﺮاﺑﻮﻟﯿﻂ ﺑﯿﺚ ﻗﻄﺮاﯾﻲ ﻣﺎر ﺗﻮﻣﺎ، وأﺳﻘﻒ دﯾﺮﯾﻦ ﻣﺎر إﯾﺸﻮﻋﯿﺎب، وأﺳﻘﻒ اﻟﻤﺎزوﻧﯿﯿﻦ ( ﻋُﻤﺎن ) ﻣﺎر اﺳﻄﯿﻔﺎﻧﻮس، وأﺳﻘﻒ ھﺠﺮ ﻣﺎر ﺑﻮﺳﻲ، وأﺳﻘﻒ اﻟﺨﻂ ( ﺣﻄﺎ ) ﻣﺎر ﺷﺎھﯿﻦ، وأﺳﻘﻒ اﻟﻄﯿﺮھﺎن ﻣﺎر ﺳﺮﺟﯿﻮس. وﻗﺪ ﺻﺪر ﻋﻦ ھﺬا اﻟﻤﺠﻤﻊ 24 ﻗﺎﻧﻮﻧﺎً.
وﺑﻌﺪ اﻧﺘﮭﺎء اﻟﻤﺠﻤﻊ ﻏﺎدر اﻟﺠﺎﺛﻠﯿﻖ ﺑﯿﺚ ﻗﻄﺮاﯾﻲ ﻣﺘﻮﺟﮭﺎً إﻟﻰ دﯾﺮه ﺑﯿﺚ ﻋﺎﺑﻲ، ﺟﺎﻟﺒﺎً معه ﺳﺘﺮاً ﻟﻠﻤﺬﺑﺢ، ﻧﺴﺞ له ﻓﻲ ﺟﺰﯾﺮة دﯾﺮﯾﻦ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺳﻜﺎن ھﺬه اﻟﺠﺰﯾﺮة.