ملكة الشماسي ووداد البدر جارتان في “القلعة”.. وفي “الخباقة” أيضاً الصديقتان أم مفيد وأم سلامة رحلتا في وقت واحد فشعر الجميع بـ"مرارة" الفقد
القطيف: ليلى العوامي
جمعت الصداقة والجيرة ملكة الشماسي أم سيد مفيد العوامي، ووداد البدر أم سلامة الزاير، لثمانية عقود، قبل زواجهما وبعده، لكن هاتين السيدتين رحلتا في يوم واحد، الأول من أمس (السبت)، بفارق ساعات، وربما دقائق (وداد أولاً)، التقتا في مغتسل حسينية الفاطمية، وضعتا جنباً إلى جنب، ليدرس عليهما القرآن الكريم والأدعية المأثورة، إلى أن شيعتا في وقت واحد إلى مقبرة الخباقة في القطيف، ليتجاور قبريهما لا يفصلهما إلا اللحد.
السيدتان عاشتا الظروف نفسها، ربيا أبناءهن بعد رحيل الزوجين، ليكونوا على ما هم عليه اليوم.
الحاجة وداد
تزوجت الحاجة أم سلامة وداد الشيخ طاهر الشيخ حسن علي البدر، من الحاج عبدالجليل محمد جواد الزاير، وأنجبت منه خمسة أولاد وابنتين. كانت في بداية زواجها تعيش في العراق، وعادت وسكنت بحي القلعة في بيت والدها (رحمة الله عليه)، ثم انتقلت للعيش في منزلها الواقع بحي الشماسية في القلعة.
عرفت أم سلامة بخدمة الآخرين، والحث عليها، وكانت تحاول إصلاح ذات البين. ورغم أنها غير متعلمة، إلا من يجلس إليها يشعر أنه تحمل شهادة الدكتوراه، من خلال تعاملها مع الأخرين. صاحبة ابتسامة، لا تنتظر من أحد أن يشكرها على شيء قدمته. لديها مبادراتها المستمرة وعطاءاتها اللا محدودة.
مانحة الجمال.. والتسامح
تقول ابنتها الدكتورة آمال الزاير لـ”صُبرة” “ماذا أخبرك عنها؟ علمتنا كل شيء جميل، علمتنا أن نقدم الجميل، ولا ننتظر المقابل من أحد. كانت تقول: أعطي أحسن ما عندك وأفضله، كانت دائماً تقدم لنا نصائحها: كونوا متسامحين مع الجميع، الكثير الكثير الذي نذكره”.
وأضافت الزاير “حضن أمي لم يكن لأولادها فقط، فهي احتضنت الجميع، سواء كانوا من الأهل، أو الفقراء، الأيتام، المطلقات، والأرامل. لا أحد في حياة أمي كان مجتاجاً لشيء، وقبل أن يحتاج كانت تمد له يد العطاء والنصيحة والاهتمام. عرفت بين الجميع بالتسامح مع نفسها، ومع الآخرين أيضاً، وما أن تسمع عن إحدى جاراتها مريضة، أو بحاجة إلى مساعدة؛ حتى كانت تهب لمساعدتها”.
الحلو فوق.. المر تحت
الحاجة وداد لم تكن تقرأ أو تكتب؛ لكنها – بحسب ابنتها “مثقفة، ناصحة وموجهة للخير دائماً. قامت بتربيتنا بعد وفاة والدي بكل ما تستطيع من جهد، لم تجعلنا نحتاج إلى شيء، كانت الحصن المنيع لنا من كل ما يسيء إلينا، هكذا كانت أمي وداد أم سلامة، لن تتكرر، لأنها إنسانة لديها قوة جبارة ونظرة جميلة للآخرين. كانت دائماً تقول لنا: ضعوا الحلو فوق، والمر تحت، في نظرتكم للآخرين، حتى أزواجكم”.
حملت أم سلامة على عاتقها خدمة الجارات، وتقديم النصح لهن متى ما أحتجن لذلك، وكانت ترى أن من واجبها ذلك، تضيف ابنتها أمال “كانت دائماً تقول: النعمة حافظوا لتحافظ عليكم، وإن بقي لديكم طعام؛ حتى لو حبة رز واحدة؛ أطعموها للحيوانات”.
وبصوت مبحوح حزين؛ قالت “لست خائفة عليها الآن، فهي عند رب رحيم، ولكن أكثر ما يحزنني هو فراقها”.
جارتان واختان
عن علاقتها بالراحلة ملكة الشماسي أم السيد مفيد العوامي، قالت آمال “لم يكن يفصل منزل والدي، ومنزل عائلة الشماسي إلا حائط فقط، كنا دائماً معهم في السراء والضراء أهل؛ فأم مفيد ليست جارة فقط، وإنما أخت أمي وصديقة مقربة، وكعادة منازل القلعة في ذلك الوقت؛ الأبواب مفتوحة للجميع، يتزاورون بلا مواعيد”.
في نهاية أيامهما؛ التزمت الحاجة وداد الصمت، تبرر ابنتها “حتى لا تتشكى من شيء، ورحلت وتركت وراءها كل جميل، فقد زرعت أمي لنفسها في كل بيت نخلة، بالذكر الحسن، فأمي طاقه ايجابيه للجار والأهل، تحب المساعدة وتهب لها، للقريب والبعيد، الجار والأهل على حد سواء”.
مدرسة الحنان.. والأخلاق
ناهد الزاير، زوجة ابن الحاجة وداد خاطبتها عبر “صُبرة” قائلة “ولنا فيك يا أمنا الحنون ذكريات لا حصر لها ولا عد، وحكايانا تطول بين قلب كبير لا يمل من عطاء أحبته، وبين ابتسامة وخلق نشئنا على رؤيتها، لنتعلم منها معان كثيرة تساعدنا كي نعيد تربية النفس وجبلها على محاسن الأخلاق، فأي مدرسة انت يا ام سلامة؟ مدرسة للحياة وللخلق، أم للأمومة بأسمى معانيها التي تجسدت في عطائك اللا محدود، وأنت للبعيد تعني الكرم والجود والطيب، وها هي محاسنك الجميله تتدوال في أفواه الناس، وما أكثرها، فهنيئاً لك آماه هذا المقام من الحب في قلوب العباد، ورزقك الله بجنانه في أعلى عليين”، مضيفة “أماه يا وجه القمر، السعد كله في ابتسامتك، والبركة كلها حضنك الذي جمعنا أسرة متحابة سنوات طوال، سنظل بذكراك نعيش تلك البركة، وسنهديك كل جميل، كما اهديتني الجمال والحب كله”.
من القلعة لحي الحسين
أم سيد مفيد، ملكة رضي ناصر الشماسي، أنجبت أبناً واحداً وأربع بنات، عاشت بداية عمرها في بيت والدها بالقلعة، ثم تزوجت وانتقلت للعيش في منزل بحي البستان في القطيف، حتى امتلك زوجها منزلاً، وعاشت في حي الحسين منذ 37 عاماً.
من عرفها أشار إلى تميزها بـ”طيب الحديث، والابتسامة والنكتة اللطيفة والخفيفة”. ما أن تدخل بيتها؛ حتى تلاقيها واقفة أمام الباب تنتظر دخولك عليها. هكذا كانت شيمة نساء القطيف، وتطعمك الزاد وطيب الحديث، ولا تمل منه حتى تخرج. تقدم ما بيدها للفقراء والمحتاجين، تسأل عنهم حتى تصل إليهم.
ابنتها إيمان وصفتها قائلة لـ”صُبرة” “أمي تعبت حتى ربتنا. كانت محبوبة الكل، وجاهدت وضحت حتى صرنا على ما نحن عليه اليوم، ماذا أقول وبما أصفها؟”.
لسان لا ينطق الا جميلاً
فتحية عبدالغني الخنيزي، أم أحمد الشماسي، تسكن حي الحسين، جارة مقربة لأم مفيد (رحمة الله عليها) تقول لـ”صُبرة” “عرفتها منذ أن سكنت حي الحسين، كنت أعرفها قبل ذلك أيام وجودنا في القلعة، بعدما تزوجت ابن عمها الحاج صالح الشماسي حتى أصبحت جارة وصديقة مقربة منذ أكثر من 30 عاماً معرفتي لها”.
ولفتت الخنيزي إلى أن “السنين لم تغير الحاجة ملكة، لم تتغير نفسيتها حتى مع مرضها، كانت تسأل عنا جميعاً. وفي الأونة الأخيرة كنت أزورها، وما يميزها أنها لم تشتك الألم وظروف الحياة، سوالفها جميلة، وكانت دائماً تردد: رحم الله ذاك الزمن. وحينما أزورها كنت دائماً أقول لها: شحالش (كيف حالك) أم مفيد؟ وكانت ترد علي زينة على جزاش (جزاءك). وحينما أقول لها وحشتيني أم مفيد؛ ترد: “أعبرش يا أم العبر”، كلماتها القطيفية الجميلة كانت تزرع السعادة في القلب، لبقة، ذوق في الكلام، تسأل عن الصغير والكبير”.
عن علاقتها بأم سلامة؛ تضيف الخنيزي “علاقتهما يمكن وصفها بعلاقة أخت مع أختها، وسبحان الله توفاهما الله في نفس اليوم، والفرق بينهما سويعات فقط، لم تفارقها في الدنيا، ولا بعد الرحيل، وكأنهما كانتا تدعيان أن يكونا مع بعضيهما حتى في الآخرة، فاستجاب الله لهما”.
أكثر من جارة
تصف بهية الشيخ علي ابي حسن الخنيزي، أم حلمي الشماسي، الفقيدة أم مفيد “السيدة التي لم تبرح مصلاها يوماً، قارئة القرآن، الصائمة، الطيبة والأنيقة”.
تتذكر أنها تزوجت من السيد حسين “فسكنت معي عدة أشهر، حتى أصبح لديهما منزل في ذات المنطقة التي أسكنها، وأنا كنت في بداية سكني منزلي الجديد الواقع في الشماسية، فأصبحنا جارتان، ولكن بيوتنا كانت مفتوحة للجميع، وكانت أم سلامة جارة لمنزل عائلة الشماسي (منزل العائلة الكبير)، وبعد عودة عائلة الشيخ البدر من العراق، أصبحت جارتنا، وكان منزل العائلة مفتوحاً، تأتيه النساء صباحاً وعصراً ومساءً، يقضين وقتهن في الأحاديث والخياطة، وكانت تذهب معنا في كل زياراتنا، وأولادها كانوا في منزلنا مع أولادنا أخوة، فالعائلتان قربهما من بعضهما ليس بالجيرة فقط، وإنما بالمحبة والتآلف”.
مواقف لا تنسى
تضيف أم حلمي “لا انسى مواقف أم سلامة معي، وأكثرها تدل على طيبتها وحبها لفعل الخير، ففي أول ليلة لي في سكني الجديد بحي الشماسية، قال لي أبو حلمي: غداً سيكون لدينا ضيوف، أخوتي وأهلي، وأريد منك إعداد ما يناسبهم، رغم أني متعبة من تجهيز المنزل، فهي أول ليلة لنا فيه، لكن حباً وكرامة. وفي صباح اليوم التالي ومبكراً؛ زارتني أم سلامة، وقالت إنها جاءت لمساعدتي، تعجبت، فسألتها: من أخبرك بأنني أريد مساعدة، ولدينا ضيوف؟ ضحكت وبدأت تطبخ معي، وانتهينا من إعداد كل شيء، وتم تجهيز الطعام، فما كان منها إلا أن عادت لبيتها.
مواقف أخرى من المحال أن تنساها أم حلمي، مضيفة “تأتيك فجأة بخيراتها (رحمة الله عليها)، وكأنني الآن أسمع صوتها، وهي تقول لي حينما تراني: شحالش (كيف حالك) غناتي؟ يا بعد قلبي شحال أولادي وبناتي؟”.
عصاميتان رحلتا وبقي أثرهما
إحدى الجارات وصفت الراحلتين الشماسي والبدر، بـ”السيدتين العصاميتين، ربين أبناءهما على حب الخير للناس، وتقديم العون للمحتاجين. لم نسمع لهما صوتاً إلا مرحباً بالضيف وإكرامه. أم مفيد كانت نسمة حي الحسين الهادئة، الطيبة الكريمة، وأم سلامة صاحبة الشيمة وأم الخير، صفات اجتمعت فيهما، لترحلا ويبقى الأثر والذكر الطيب”.
“خوش أمهات”
معصومة أحمد الحمود، أم علي شعبان، قالت لـ”صُبرة” “أم مفيد إبنة عمي، نلتقي في الأجداد، كان والدي يعيش معهم في منزل الحاج رضي الشماسي، وعمي أيضاً في القلعة. وبعدها انتقلنا للعيش في الدمام، وكنا إذا زرنا القطيف يكون جلوسنا في المنزل الكبير لبيت الشماسي، لذا قويت علاقتي بأم مفيد، وكنت أذهب معها للزيارات والمناسبات والفواتح، هادئة خيرة في حال سبيلها، صوتها لا يعلو على صوت الآخر، كانت نسمة رحمة الله عليها”.
تضيف أم علي “جمعتني وأم سلامة مواقف طيبة، كان منها رحلتنا إلى إيران، التقيت بها قبل سنوات، وكعادتها مضيافة، صباح كل يوم كانت تدعوني، وكنت أذهب لها لتناول الفطور معها، وما جعل علاقتي بأم سلامة تقوى هو كون أختها جارتي في الدمام، فكانت زياراتنا دائماً مع بعض، فعلاً القطيف فقدت “خوش أمهات”.