[1 من 3] دفاعا عن الحق لا عن الرئيس الفرنسي هل انتقد ماكرون الإسلام؟
جهاد عبد الإله الخنيزي
ما الذي يجعل لعبارة مثل هذه نطق بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الجمعة 2 أكتوبر في حي (ليه موريه)
“الإسلام دين يعيش أزمة في كل أصقاع العالم وليس في بلدنا فقط. أزمة عميقة مرتبطة بتوتر بين أصوليات وتطرف ومشاريع دينية وسياسية نراها في كل مناطق العالم تؤدي إلى التقوقع” ـ قناة FRANCE 24 ـ
أن تثير شيخ الأزهر محمد الطيب فيرد كالتالي
“في الوقت الذي نسعى فيه مع حكماء الغرب لتعزيز قيم المواطنة والتعايش، تصدر تصريحات غير مسؤولة، تتخذ الهجوم على الإسلام غطاءً لتحقيق مكاسب سياسية واهية” ـ محمد الطيب: تويتر ـ
العبارتان كلتاهما صارختان ومكتنزتان لما هو أكثر مما في الكلمات. الأولى تبدأ بنقد الدين كمقدس ثم في تبريره بما هو أصغر (أصوليات ومشروع سياسي). والثانية بالتأسف على انتهاك قيم عالمية إنسانية (المواطنة والتعايش) وتنتهي بنقد الانتهازية السياسة المصلحية (مكاسب). فمنطق الخطاب واحد الانطلاق من العام ثم التخصيص، ولكن القضية لدى كل منهما مختلفة.
الكلمات ليست هامشية. إنها مواقف تصادمية واسعة الطيف تجد لها مؤيدين من الطرفين كما لاحظنا من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتشابك فيها السياسي بالديني بالاجتماعي بالشخصي، وتنفتح كل الأبواب للمثالب لإحداث أكثر ألم وإيذاء في الطرف الآخر كما رأيناه في تصريح رجب طيب أردوغان حين وصف تصريح ماركون بـ (قلة أدب). ولكنه في الواقع شرخ في المنتوج الإنساني العالمي وليس فقط في التخاطب أو الجمهورية العلمانية اللائكية أو الأخلاق السياسية. أي إعادة طرح مسألة كيف تعيش الأمم في دول منفصلة وفي ديانات وتنطلق منها في نفس الوقت نحو الاقتراب في ظل حمائية سياسية. هل يمكن أن يحدث هذا أو أن ما حدث هو دليل فشل بسبب نفس الدولة ونفس الدين لاختلاف منطقيهما.
لقد انطلق النقد ليس فقط من العبارتين بل من الأمثلة البسيطة التي استخدمها ماكرون وتثير قلقه في أنها تهدد مبادئ الجمهورية من مثل قوائم الطعام الدينية وفصل الجنسين في المسابح والحجاب ولبس رموز ذات دلالة دينية خاصة لموظف في لجمهورية. والحقيقة هذه إثارة سخيفة للتفكير بهذا الشكل حين تم ربطها بالإرهاب ثم بالإسلام والإسلاموية ويبدو أنها سبب إثارة حساسية شيخ الأزهر والأزهر معا، فكان الرد على رد في الواقع.
إنها مواجهة حقيقية بالكلام. وكل منهما يقول للآخر اعرف حدودك في جمهوريتي التي تخصني أو ديني الذي يخصني.
فما الذي يجعل الأمر يصل لحد المواجهة. وهل هي مواجهة ضد الإسلام؟ أم أننا أمام جدل المواجهة الحضارية بطبيعة قوتين ذات خلفيتين حضاريتين مختلفتين؟
الحق ولست مدافعا عن ماكرون، لقد ذكر هذه العبارة ضمن سياق الهجوم اللاذع على الذين يحملون مشروعا سياسيا رديكاليا ممنهجا شكلوا من خلاله نظاما موازٍ للجمهورية يعمل ضدها، ويعزل فئة من المواطنين عن الإسلام العام وعن الجمهورية معا. ولم يطلق العبارة ضد الإسلام كدين في نفسه، وسماه في آخر كلمته بالإسلام المتنور، كما لم يكن يعني بالنقد المواطنين الفرنسيين المسلمين
“علينا أن لا ننساق إلى الفخ الذي نصبه لنا الإسلامويون الإنعزاليون فنصم كل المسلمين بالانفصالية”.
فهل كان ماكرون مفلسفا دينيا للإسلام أيضا. أو يخفي مشروعا يتوارى خلف السياسة؟
هذا بالطبع لا نستطيع أن نؤكده فهو نفسه اعترف بأنه ليس متخصصا حين انتقد الإسلام ـ وهذه سقطة أخرى ـ وقال هذه وجهة نظري أنا؛ لكنه في نفس الوقت أخطأ في ترتيب العبارة حين بدأ بالإسلام وقال إنه “يعيش أزمة”، ولو بدأ بحركات التطرف والرديكالية لما بلغ الأمر ما بلغ. كما أن المثال الذي قدمه عن حالة تونس قبل وجود التيار الإسلامي في منظومة الحكم، وما قبل وجوده فيها زاد الطين بلة حيث امتدح التربية والرقي في المجتمع التونسي آنذاك فما كان عليه أن يوظف شأن دولة ذات سيادة ليتغالب به على مشكلته الفرنسية مع المجموعة الانعزالية التي يقصدها دون غيرها انتصارا لمبادئ الجمهورية واللائكية، وهي الصيغة العلمانية الفرنسية التي يعبر مفهومها عن فصل الدين عن شئون الحكومة والدولة وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشئون الدينية. ـ الموسوعة السياسية على الإنترنت وويكيبيدياـ
على أننا لو عدنا لموضوع الإسلام والإسلاموية سنجد المفاصلة بحسب منطق ماكرون هكذا: الإسلام في ذاته يختلف عن الإسلام في حالته الإسلاموية، فالثانية هي تعبير عن مواقف ومشروع انعزالي خطير. والإسلام دين قيمي صالح للعيش، والإسلاموية جماعات سياسية بينما الإسلام شأن عبادي كأي دين آخر لا ينافس الجمهورية ولا يحارب اللائكية.
ويبدو أنه لم يوفق تماما حين خلط بين الإسلام والإسلامويين فجاء رد شيخ الأزهر بمستوى التدهور في خطاب ماكرون وحذره
” هذا السلوك اللاحضاري ضد الأديان يؤسس لثقافة الكراهية والعنصرية ويولد الإرهاب” ـ محمد الطيب: تويتر ـ
هذه الكلمات تشبه التهديد بل تنبؤات لما يمكن أن يكون، وتغالب بين الكبار النافذين من يجلسون على كراسي كبيرة في الدول والمجتمع. غير أننا بشيء من التأمل سنجد أن شيخ الأزهر وقع في الفخ الذي حاول ماكرون أن يتجنبه ـ ظاهريا على الأقل ـ أن ينسب التطرف والانعزالية لكل المسلمين إذ تبرع للقيام بذلك نيابة عنه حين دافع عن الإسلام والمليارين من المسلمين بمثل هذه الكلمات وتناسى المقصود السياسي لخطاب ماكرون.
أنا أتصور أن هناك مشكلة صدرت من الطرفين وهي اقتطاع النص الذهني واللفظي معا. ثم استخدام هذا الاستقطاع للهجوم على الطرف الآخر وقبل ذلك إضمار نية سيئة مسبقا ما يجعل كلاهما لا يتكلم فقط بما ينطق بل بما يتصور في الخلفية الذهنية، وفي القرار السياسي الذي يحمل أبعادا أوسع مما يصرح به.
والدليل على ذلك استغراق ماكرون في الربط بين الخصوصية الدينية العامة كأنها تهديد لمبادئ الجمهورية واللائكية متناسيا بأن التيارات الأصولية والمتطرفة في الإسلام لم تكن تحظى بمثل هذه المكانة في الواقع الإسلامي لولا أنها كانت جزءا من مشروع الفوضى في الشرق الأوسط الذي تقوده سياسات دولية. والذي تتهم فرنسا بأنها وراء جزء منه.
وبهذا فهو يقع في تناقض صارخ بين مبادئ الجمهورية ومبادئ اللائكية، بين الممنوع على الدولة التدخل فيه في الحرية الدينية وما يحق لها حين يكون الأمر ماسا بالعلمانية وحرية المعتقد فلا حرية عندها. وكأن هذا مقتل مشروع ماكرون الحقيقي أن تستخدم الدولة في نقض ما ليس لها بحق الدولة نفسها. إنها معادلة إشكالية جدا.
كان من المقبول منه نقد التطرف والعنف الذي يستند إلى تفسير ديني رديكالي وإلى علمانية متطرفة ترفض المس بالحريات الشخصية ولكنها لا ترى بأسا حين تمس الرموز الدينية المقدسة بسخرية مقززة كما حدث من جريدة (شارلي ادلو) تجاه الشخصية المقدسة الأولى في الإسلام لأكثر من مليار ونصف مسلم ولما يزيد عن خمسين دولة إسلامية. ولكنه لم يفعل.
إن الأمر إذن يبدو في كلام ماكرون كأنه يستبطن نقدا للإسلام بلغة تحويرية، ولكن للحق فإننا لا نستطيع أن نجزم بمثل هذا الحكم عليه لأن خلفيته علمانية أو مسيحية أو لائكية فطالما لم ينطق في سياق حديثه بنقد للإسلام كدين وإنما تحدث عن أزمة يعيشها بسبب التيارات الأصولية أو حالات جزئية يراها تناقض العلمانية ويراها المسلمون من صميم الدين فمن الممكن المناقشة معه. وبالطبع سوف نجد شواهد كثيرة تفند رأيه لأن الفكر الإسلامي الوسطي الاعتدالي التي تقبل به الأكثرية قد حسم موقفه من التيارات الفكرية المتطرفة مع أنه لا يمكن لأي أحد أو جهة أو دولة أن تعطي يقينا تاما بمحو أي فكر تماما فالتاريخ يثبت بأن الأفكار المتطرفة هي جزء من عملية نتاج الفكر البشري وليست شيئا من خارجه. بالطبع هناك مسببات معقدة لوجود هذا التطرف اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية ومازجية أيضا ليس المجال لها الآن.