الراحل العوامي وضع تشخيصاً لواقع طلاب العلم والخطباء وكفاءة وكلاء المراجع دوّنها بعد رحلته إلى العراق ودراسته في النجف وقربه من واقع الحوزة
الحلقة 18: بستان السيحة وسمر في الذاكرة
السيد حسن السيد باقر العوامي
سارية وطن
2/3
عدنان السيد محمد العوامي
توقَّفنا في الجزء الأول من الحلقة (18) السابقة عند حديث سميرنا السيد حسن عن دعوة سفير المملكة معالي الشيخ محمد الشبيلي (رحمه الله)([1]) له على المأدبة التي أقامها لرئيس طائفة البهرة ” الشيخ برهان الدين عام 1400 هـ، فلنتابع:
(أما المرة الثانية عند معالي السفير [الشيخ محمد الشبيلي رحمه الله] فكانت حفل عشاء أقامه في حديقة السفارة تكريمًا إلى عميد السلك الدبلوماسي في بغداد بمناسبة انتهاء مدة سفارته لبلده، وأظنه – حسب ذاكرتي – عبد الهادي التازي([2])، الأديب المعروف، ويُعتبَر كلُّ سفير عميدًا إذا كان أقدم السفراء مدةً في البلد الذي هو سفير فيه عن حكومته.
وكانت الحفلة تضم كل السفراء والقناصل العرب، وبعض الشخصيات، ومنهم خير الله طلفاح – محافظ مدينة بغداد، وكانت الحفلة بهيَّة جميلة مفرحة بالحضور، وبما زُيِّنت به من الأضواء والورود والرياحين ومباخر العود ودلال القهوة العربية وموقدها، والعشاء الفخم الذي تنوَّعت فيه ألوان الطعام والشراب الحر غير المحرم، بطهي غاية في الجودة، والرائحة الأخاذة، ومن كرم السفير تنويع مائدة الطعام، ولاحظت بين الجالسين ثلاثة نفر ليسوا على مستوى الحضور، فسألت معاليَه عنهم وعن سبب حضورهم، فقال إنهم جواسيس من حزب البعث، وما شئت إخراجهم، ولو أردت لأشعرت السيد طلفاح، وليس عندنا ما نخشاه، وهذه هي دماثة خلق معاليه.
إلى النجف الأشرف
لما قررت دراسة الفقه ومتعلِّقه من أصول ومنطق وبيان انتقلت إلى النجف الأشرف – الجامعة الإسلامية الجعفرية- مثوى مرقد الإمام علي عليه السلام، ومهوى قلوب الشيعة، ومحط آمالهم، البقعة التي تشع بالإيمان، وتنشر العرفان في ربوع الإسلام، ومنها تنطلق الفضيلة بأسمى المعاني، ومنها يتضوَّع أريج العدل والسماح والعلم الغزير، بما تخرجه مدارسها من أعلام إلى كافة الأقطار، ولم تكن النجف محط أنظار العالَم الأحياء منهم خاصة، بل إن كثيرًا منهم يوصون بنقل جثثهم إلى النجف لدفنها بالغريين، سواء من أقطار العالم الإسلامي، والدول التي يكثر فيها المسلمون، مثل الهند وباكستان، وبعض الدول العربية وغيرها، وقد قال أحد شعرائها يصف العطاء الخيِّر للدنيا والآخرة الذي تمنحه النجف:
وواردات بلدتي جنائز
وصادرات بلدتي عمائم([3])
مقبرة وادي السلام في النجف.. أكبر مقبرة في العالم
ويظن البعض أنها سخرية بالنجف وساكنيها، وهذا خطأ محض؛ لأن العمامة رمز للعالم المجتهد، والمرجع الكبير، أو الذي ينتسب إلى العلم، ويقوم بتحصيله، وهل أشرف في الحياة من العلم، ولاسيما العلم الديني الذي يعيد صاحبه دائما وأبدا إلى حضرة ذي الجلال؟ فإذا كانت النجف تصدر العمائم بالدرجة الأولى فإن ذلك يعني أنها مركز العلم الأولى، وحاضرته التي تأتي في مقدمة المراكز العلمية في العالم الإسلامي، ويكفي أن نعلم أنها خرجت صاحب كتاب الجواهر ” الشيخ محمد حسن الجواهري ” والشيخ السيد ” بحر العلوم ” والشيخ ” محمد حسين كاشف الغطاء ” الذي أم جموع المصلين من جميع المذاهب الإسلامية في المسجد الأقصى، وقال كلمته الشهيرة “بُنِيَ الإسلام على اثنتين: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة”، وهو صاحب كتاب ” المثل العليا في الإسلام لا في مؤتمر بحمدون”، وقبله جدُّه الشيخ كاشف الغطاء الكبير، المرجع العظيم، ومعه السيد “أبو الحسن الأصفهاني” الذي قال فيه الأستاذ ” محمد علي الحوماني “الكاتب المعروف” لو كان لله قلب لكنت أنت ذلك القلب”، والآلاف المؤلفة من الأولين منذ تأسيس الجامعة النجفية علي يد العلامة شيخ الطائفة “الشيخ الطوسي” أعلا الله مقامه حتى الآن، من علماء باحثين ومؤرخين وكتاب وشعراء وخطباء، ويكفي أن يطَّلع المرء على بعض الموسوعات مثل ” الذريعة في تصانيف الشيعة ” أو ” نقباء البشر ” ليعرف ما هي النجف، ومن هم الشيعة.
ولو كانت النجف لم تُنجِب إلا الخطباء أمثال الشيخ الوائلي، والشعراء أمثال الشبيبي والفرطوسي والجواهري والحبوبي لكفاها فخرًا، فكيف وتصدير الألوف من العلماء إلى العالَم الإسلامي وغيره. إما ورود أو توريد الجنائز لها فهل غيرها كذلك من بقاع العالم؟ أبدًا، وما ذاك إلا لأنها بقعة مقدسة، وكم لله من بقاع في أرضه مقدسة!؟ وفيها مثوى أفضل رجل في العالم – بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) – وأقدس شخصية عرفتها البشرية – بعد أخيه المصطفى – فهو وجيه عند الله وشفيع لديه برضاه، فلا غرو أن تهفو أفئدة المؤمنين إلى جوار قدسه أحياءً وأمواتا.
والدراسة الدينية في النجف لا تقوم على انتظام زمني ومراحل لها، لكل مرحلة فصول معينة يجتازها الطالب أو يعيد دراستها، إنما تقوم على نظام يُطلَق عليه اسم “الحوزة”، وهو دراسة لفيف من الطلبة عند متخصص في العلم الذي يدرس فيه، ابتداءً من أول نقطة الدراسة وهي – مبادئ النحو – إلى أن يرتقي الطالب فتكون لديه القدرة على حضور البحث الخارج عند أحد المراجع – المجتهدين الكبار – ولا يحضر طالب العلم بحث الخارج إلا بعد الانتهاء من دراسة النحو والبلاغة والمنطق والأصول، والانتهاء مما يُعرَف بالسطوح، وتظهر ملكة الطالب وقدرته على استيعاب محاضرات الفقيه في البحث الخارج، ومناقشته مع أستاذه، والاستظهار على بعض ما يطرحه من مادة علمية. وكلما كان الطالب ذكيًّا مستوعبًا كانت فترة دراسته وحصوله على درجة الاجتهاد أقل من غيره بكثير في سني دراسته، فعلى سبيل المثال، إن العلامة الحلي قد اجتهد قبل البلوغ، والعلامة الصدر بلغ درجة الاجتهاد بعيد البلوغ، وكثيرون أمثالهم.
إن النجف -كأي حاضرة من حواضر العالَم- تستقطب مختلف شرائح المجتمعات ونوازعهم وميولهم ودوافعهم الخيرة والشريرة -وهذا طبيعي في البشر- كما أن أي علم يمكن أن ينفذ فيه الإنسان الطامع لتحقيق رغباته ونزعاته، ويحاول الأدعياء الانتماء إليه، ولاسيما العلم الديني الذي يحظى صاحبه بالتبجيل والطاعة من لدن الآخرين؛ لذلك ليس من الغريب أن يتخفَّى عشرات الأفراد بين طلبة الحوزة الدينية في النجف، وليس هدفهم إلا كسب المال والجاه والعيش على حساب الآخرين، بل منهم من كان يتلبَّس بلباس الدين وهو عينٌ لحكومته، ومبشر بين المبشرين ضد الإسلام والمسلمين، والعلماء – ولاسيما المرتبطون بالله – ليس لديهم جهاز استخبارات ومباحث لاستقصاء سلوك الأفراد، بل هم – على عكس ذلك – يعتقدون في الأفراد والمسلمين الصلاح والإيمان، كما ينظرون لأنفسهم، ويتعاملون مع الآخرين من منظار الحديث: “احمل أخاك على أحسنه”. والطالب المتمرس في الحياة يرى الآخرين من حيث كونهم بشر – وربما بشر من النوع الشرير- فهو يلاحظ الحياة العامة وسيرة الأفراد والخط المغاير في ذلك البلد الذي يعيش فيه. إما العالِم -أو المرجع- فهو ينوء بثقل المسئولية، ويتكل – في النظر إلى الناس وإلى تصريف الأمور – على حاشيته وأعوانه الذين يثق بهم كل الثقة، ويمنحهم من التفويض ما يعينه على أداء مهماته، ولا بد للعالِم أن يثق بحاشيته وإلا كيف يدير شؤونه؟ هذا علاوة على حسن ثقته بالمسلمين.
دعوة لإعادة النظر:
وكلما تقادمت عادة من عادات المجتمع – سواء كانت إيجابية أم سلبية- زادت تراكماتُها، ونشأت بها زوائد، واحتاجت إلى إعادة نظر وتشذيب وتهذيب، وهذا ما كان قائمًا في النجف، فمن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر:
- 1ـ وجود مندسِّين بين الطلبة من مختلِف الجنسيات هم أصحاب حرف ومهن، خبازين وندافين وسواهما، فإذا جاء آخر كل شهر لبسوا العمامة، وحضروا صلاة الجماعة، ولازموا مسجد ومنزل المرجع للحصول على المرتَّب الذي يدفعه المرجع كلَّ شهر إلى طلبة العلم.
- 2 ـ الاستغلال الذي يقوم به بعض سدنة الروضة الحيدرية للبُسطاء من الناس، ولاسيما الأمِّيين وأهل الأرياف والمعايدة باسم بركة أهل البيت، والنذور ونحوها.
- 3 ـ المبالغ الطائلة التي تُرمى في مبنى المرقد الشريف، ويستبدُّ بها رئيس السدنة – الكليدار – حتى إن بعضَهم ملأ بها أكياسا من الجوت وخزَنها في سرداب منزله فذاب أكثرها بسبب رطوبته وطول المدة عليها، ويندرج في هذا الإطار:
- أ – عدم تنظيم الموارد المالية إلى المرجعية وجهة صرفها، لعدم إعداد موازنة مالية للمرجعية كل عام.
- ب – تسنُّم منابر الخطابة لكل من يطلب الكسب بأسهل الطرق، فيحفظ بعض القصيد، وشيئًا من الشعر النبطي، والأخبار المشكوك في صحتها، لإرضاء مشاعر العوام، فيهرف بما لا يعرف.
- ج – التنافر بين أتباع المراجع وتوسيع هوة عدم الالتقاء، بما يضيع فوائد الاجتماع والنقاش، وبحث المسائل التي تهم الطائفة.
- د – عدم مراجعة وكلاء المراجع في الأقطار الإسلامية، ومدى كفاءاتهم، وعلاقتهم بالجمهور، وفاعليتهم في تمثيل المرجع، ورضا الناس عليهم، وملاحظاتهم.
- هـ – الدعاة والمبتعثون من قِبَل المراجع والمؤسسات الدينية؛ كيف هم؟ وقدرتهم؟ومستواهم الأخلاقي والمعرفي؟ مع قدرتهم العلمية على المناظرة؟
- و – إعداد لجان ذوات اختصاص وقدرة ومهارة للرد على الافتراءات ضد الشيعة ومعتقدهم، ودفع الشبهات التي تُلصِق – باطلاً – بهم.
- ز – تنقيح بعض كتب التراث، ولاسيما التي يتناولها الجمهور، وبالأخص كتب الأدعية التي تتضمن ما يجعل الفرد الساذج يعتمد على ما ورد فيها من عظيم الأجر والثواب، والعفو عن الذنوب، لمجرد تلاوة سطر أو سطرين فيها.
- ح – تصرف بعض حواشي المراجع بالقيام بعمل يَظُنُّ أنه يرفع من مقام المرجع، ويحسن إليه، وربما كان لأجل الحصول على التقرب منه أكثر فأكثر، كأن يقوم بعمل آلاف الملصقات والصور لتوزيعها في أنحاء العراق، وهذا يكلف خزينة المرجعية، ويضر بالمرجعية عند العلماء والمثقفين.
- ط – تعطيل الدراسة الحوزية لأدنى مناسبة، فلو حُسِبت العُطَل طوال العام لأصبحت تشكل ثلثي العام، فشهور محرم وصفر وشهر رمضان المبارك، وعطلة الصيف ثلاثة شهور، والوفَيَات، والأعياد، ومناسبة وفَيَات العلماء، والخميس والجمعة من كل أسبوع، وهلم جرا، وهذا يستدعي إنفاق مبالغ على الطلاب وهم في عطل مستمرة فيرجع مردود الإنفاق على الموارد، وبما يعيق إدارة المرجعية عن إنفاقها في سبل أخرى، كما إنه يضيع على الطالب سنين من عمره.
- صحيح إن فترات العطل تعطي للمدرس والدارس فترة للراحة والمراجعة والمذاكرة لكن ليس بحيث تفوق أيام الدراسة والتدريس، إلى غير ذلك من الملاحظات التي يُحسُّها المقيم المتتبع، بل هناك ما هو أكثر، هناك من يحاول طعن المرجعية من الظهر، لتقويض فاعليتها وإساءة سمعتها من جهات مسؤولة تسعى لمحاربة خط آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) متمثلا في علمائهم والقادة، فترى تلك الجهات تبعث بطوابير بصفة أحادية متكررة لتقيم ليالي الرقص والغناء في الأماكن المقدسة ولاسيما في النجف، وتحاول البروز بشكل علني ولاسيما بعد منتصف الليل، وفي شارع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذات الذي يبدأ من أحد أبواب الحرم الشريف، وكأن الموجود فيه في شارع الحمراء – على حد تعبير أحد الخطباء.
هذا من جانب إشاعة الميوعة الأخلاقية، ولا بد أن تجد لها صدى واستجابة عند سائر الناس، وجمهور من غيرهم؛ لأن أسباب الترفيه مما يتبعها أكثر الأمة، ومن جانب آخر تؤهِّل السلطاتُ -وهي بصدد محاربة المرجعية والمذهب- أناسا تُلبِسهم العمامة، وتدفع لهم مقررات شهرية، وتستأجر لهم مقرًّا، وتشكل لهم حاشية، وتدعم موقفهم، فيقومون بمضايقة العلماء العاملين وأصحاب المؤسسات والمراكز الإرشادية والتعليمية، بل ربما زاحمتهم في مواقعهم واحتلتها منهم قهرا، وقد حصل ذلك.
لهذه وأمثالها رأيت أن أُسهِم بما أجده واجبا عليَّ وعلى كل ذي غِيرة دينية يملك القدرة على الكلمة الهادفة أن يقولها، فأعددت ثلاث رسائل إلى ثلاثة مراجع ومقلَّدين -بفتح اللام- ضمُّنتها بعضًا من تلك السلبيات، ورسمت لها حدودًا ومعالجة، وكانت تفي بشيء كبير لو طُبِّقت، وحسب علمي أن واحدًا له طموح كبير جدًّا، وله هدف مرسوم للتغيير، وغايات بعيدة المدى تطوِّر أوضاع الطائفة والمرجعية، وآخر بعيد عن هذا التوجه، وآخر يكاد يكون مطاردًا -بل وهو كذلك- وإلا فله خطوات رائدة في فتح مدارس للبنين والبنات، ومكتبات ومراكز توجيه وغيرها، وباب مجلسه مفتوح طوال الوقت بمنظومة من المستقبلين، ولا يخرج الزائر -أي زائر- إلا وهو مزود بمجموعة من الكتب الدينية والثقافية. ولو تركت الجهات المسؤولة له فرصة الحركة والعمل لأصبح له وقع كبير وقيادة في الارتقاء بالطائفة في العراق على أقل تقدير، ولكنها لما رأت أجهزتها جموع الزوار يوميًّا، وإمامته بصلاة الجماعة يضيق الصحن بالمأمومين، أوجدت لها بطانة من أدعياء العلم فقاموا باحتلال بعض المراكز التابعة له، ومضايقته وأعوانه، ومن ثم أُجبِر على المغادرة.
نماذج من بدايات رحلته مع الكتابة
لا جَرَمَ أنَّ السيد حسن هو أحد الرموز الوطنية السامقة، ومن أوائل من حمل سلم مطالب الوطن على كاهله. هذا ما عُرِف عن دوره الإصلاحي، لكن ما لم يعرفه الناشئة من سيرته هي بدايته مع القلم. لديَّ عينات من أوائل كتاباته:
الأولى:
مقدمة كتاب ذكرى العلامة السيد ماجد بن السيد هاشم العوامي (رحمه الله)، المتوَفَّى سنة 1367هـ يجمل أن أنقلها بنصها:
(إنَّ لكلِّ فردٍ أهدافًا في الحياة، وغاياتٍ يسعى لأجلها، ومن العسير التوفيق بين فردٍ وآخر في تلك الأهداف، وتلك الغايات، ولكن مهما اختلفت وجهات النظر بين الشعوب، وتباينت النزعات بين الأمم فإنهم متَّفقون على وجهة واحدة، ونزعة واحدة. إنهم متفقون على التطلُّع للحياة الثانية، والحصول على خلود الذكر. وهذه الوجهة، أو هذه النزعة لا تزال تلعب دورها في الحياة الفردية، فتستتبع جهودًا شاقَّة، وأعمالًا جليلة، فبفضلها تتفتَّق العبقرية والنبوغ، وبفضلها يقوم الصراع الدائم بين البقاء والفناء، وبفضل تلك الجهود، وهذا الصراع ينشأ مجد الأمَّة، وتتكون عظمتها، وعلى تلك الأعمال يقوم بناء التاريخ؛ إذ التاريخ عبارةٌ عن تسجيل حياة أفراد، وإحصاء مآثر فردية, وإن التاريخ الذي تتكون منه موادُّه وعناصره من حياة الأفراد، هو نفسه تاريخ الأمة؛ إذ الأمة عبارة عن مجموعة من الأفراد. فمآثرها مآثر تلك الأفراد، وعظمتها عظمة تلك الأفراد؛ لذلك حين نتحدث عن حياة فقيدنا الراحل، فإنَّا بدورنا نتحدث عن حياة أمة، ونجلو جانبًا من عظمتها ومجدها، ونؤرخ ناحية من نواحيها الاجتماعية والثقافية والدينية، وهذا الذي حداني إلى وضع هذه الذكرى، وتصميمها لتكون سِجِلًا لبعض مآثرنا، وتاريخًا يوصل ماضينا بحاضرنا، وقد حفزني على القيام بهذا المشروع صديقي الخطيب السيد محمد حسن الشخص النجفي([4])، وذلك على أثر مذاكرة جرت عن رجالات القطيف وخدماتهم ومآثرهم، حتى انتهى بنا الحديث إلى ضياع تلك الآثار وذهابها سدى، فاقترح عليَّ بأن أقوم بهذه المهمة، أي بطبعه ونشره، على أن يساهمني فيتولّٰى جمع القصائد والكلمات، وما قيل في فقيدنا الغالي، وزعيمنا المحبوب، وما هو لائق النشر؛ إحياءً لذكرى الفقيد، وتخليدًا لمآثره البيضاء. وأرجو أن يوفَّق بعمله، ولا غروَ ولا عجب، من زميلي الشخص، فهو أهلٌ لكل مكرمة، ونبراسٌ لكل فضيلة.
هذا ما أردت بيانَه ونشرَه، والله وليٌّ التوفيق.
سيد حسن السيد باقر العوامي)([5]).
القطيف
الثانية
كلمة ألقاها في حفل ذكرى الأربعين للزعيم الوطني علي بن حسن أبو السعود، المتوفَّى عام 1374هـ، 1945م، ونصها:
من الواقع الاجتماعي([6])
إذا تناولنا شخصية الزعيم الراحل علي أبو السعود بالتحليل نجدها مثالية في هذا المجتمع؛ إذ تجسدت فيها الزعامة بكامل مقوماتها، ولكني أترك عرض حياة الراحل لغيري من الأدباء ليتناولوها بتحليل أوفى لشخصيته، والزعامة – قبل كل شيء- تحتاج إلى الإخلاص، وتفتقر إلى النزاهة والتفاني في خدمة الجماعة بدافع من الوطنية وحب الخير.
والزعامة لها مفهومها الفردي وهو: التصدي لمشاكل الأفراد سواء كانت مالية أو جنائية أو حقوقية أو غير ذلك. ومفهومها الاجتماعي وهو: الجرأة والإقدام والتضحية في سبيل القضايا الوطنية والحوادث الاجتماعية، وانصهار الشخصية في المعترك الوطني دون تحيز لجماعة، وميل على طائفة، ومحاباة لأخرى. هذا أقل تعريف للزعامة، فما هي مؤهِّلات الزعيم الذي تنصهر شخصيته، وتذوب أنانيته في سبيل المجتمع؟
إن الصفات التي تؤهل الفرد لأن يصبح زعيمًا حقًّا في المجتمع، يقود الناس أو يرجعون إليه في مشاكلهم العامة كثيرة جدًّا، وليست متيسرة لأن تصبح في متناول الأفراد، وإنما هي مجموعة من الفضائل قلّ أن تزدوج في شخص من الأشخاص. وإذا كانت هناك صفة أو صفتان تلازمان الفرد فإنهما لا تكفلان له الزعامة. إن للزعامة أسسًا تعتمد عليها وهي:
– الإخلاص الأكيد، والإخلاص يدفعه دافع من الإيمان بحب الوطن، وحب الناس عامة، لا يخضع لتيارات خاصة، وتأثيرات حزبية أو فردية.
– وتحتاج إلى شيء من الذكاء والفطنة؛ ذكاء يجعل المرء يقدِّر المسؤولية، ويعرف أين يضع قدمه، وكيف يزج الجماعة في المعترك النضالي، والمطاليب الوطنية، وبالتالي – وكما يُقال – يعرف كيف تؤكل الكتف.
– وتحتاج كذلك إلى لباقة في القول، وصدق فيه، ودماثة في الخُلق بعيدة عن الختل والمكر والكذب والاختلاق، وإلى الشجاعة الأدبية؛ فالرجل الذي لا يحمل الشجاعة الأديبة لا تنطبق عليه الزعامة مهما كان؛ لأنه مضطر للكذب وللمواربة والتصنُّع الذي يبطن من ورائه مخالفة للقول.
وإذا كانت هذه وتلك بعض صفات الزعامة ومؤهلات الزعيم، وإذا كنا نود مخلصين معالجة لأوضاعنا الفاسدة، وبناء مجتمع صالح قائم على العمل والتضامن والعدالة العامة؛ فلنتساءل بكل صراحة: هل في مجتمعنا اليوم زعيم كما ذكرنا؟
إن الجواب يعقب السؤال بشيء من الجرأة، ليس في مجتمعنا الحاضر زعيم بالمعنى المفهوم، أو من تناط به مقاليد الزعامة، ومن المؤكد أن هذا القول – على إطلاقه – لا يحتاج إلى تدليل؛ فالواقع برهان على كل ما نقول. نعم هناك نجدة -لا زعامة- تكتسب صبغة خاصة في حين، وعامة في حين آخر، وقد تعني هذه النجدة أمورًا اجتماعية تعود بالمصلحة على المجتمع أو الأفراد، ولكن هذه النجدة قلّما يكون باعثها الإخلاص الوطني أو الاهتمام بالنواحي العامة. وإنما الدافع نواحٍ شخصية محضة قد لا يقرها الواقع الاجتماعي؛ لأن النجدة التي تأتي بتأثير عاطفي شخصي قد تقضي على المجتمع بالتفكك والانحلال، فإذا كانت الدوافع عاطفية تسوقها اندفاعات كيفية فإنها تتغلغل حتى في القضايا الفردية، والخصام الشخصي، والدعاوى التي تقوم بين حين وآخر. ومن هنا ينشأ التحزب والخصام بين الناس بعضهم بعضًا، فها نحن نشعر بروح الخِلف والانشقاق والتضارب على القضايا الخاصة والعامة، وما من أحد يأخذ بمفاهيم الأمور، ويعالجها بحكمة وسداد. ها نحن في تيار من تضارب الآراء وبلبلة الاتجاهات، وشتى الأهواء، وكل منا آخذ وجهة معاكسة لوجهة زميله ورفيقه وجاره وقريبه.
فالجار ليس بآمن من جاره
والخل ليس بواثق بخليله([7])
وإذا نظرت إلى قلوب رجاله
فانظر حديد الطرف غير كليله
تجد الرجال قلوبها شتى الهوى
مدَّ الشقاق بها حبالة غوله
متناكرين لدى الخطوب تناكرًا
يعيا لسان الشعر عن تمثيله
كلٌّ منا يردد: >اتَّفَقوا على أن لا يتَّفِقوا<، وهذا خطأ مركب، وجهل صارخ. إذا كنا نشعر بالخلاف والانشقاق، ونرى ضرورة الوحدة؛ فلماذا لا نسعى إلى تحقيقها؟ أكل هذا شعور بالنقص الاجتماعي، وعدم ثقة بالمجتمع؟ إن التضامن الاجتماعي ووحدة الجماعة -فيما بيننا خاصة- سهلة جدًّا، وقريبة جدًّا، ففي سائر المجتمعات البشرية يحدث التكتل الاجتماعي، ووحدة الأمة بأحد العوامل. أما عامل القومية وهي: وحدة التاريخ واللغة والجنس، أو الوطنية سواء كان من الجنس أو من غيره. أو بعامل الدين وهذا في رأيي هو أكبر عامل للوحدة، وربما رأي كثيرين غيري، فكما قال المستشرق (جيب)([8]) في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) إن الدين هو أقوى أداة تهذب الإرادة العامة، فإن أمثال هذه المجتمعات تميل دائمًا إلى صهر كافة عقائدها ونظمها الاجتماعية بأحد هذه العوامل، أو بعامل المصلحة العامة تتوحد الناس. أما نحن فكل هذه العوامل مجتمعة لدينا؛ فإننا من جنس واحد، ويجمعنا تاريخ واحد، ولغة واحدة، ودين واحد، بل ومعتقد واحد. إذن فلماذا هذا الخلاف المستمر، وإلى أي حد يقف، وما أسبابه ودواعيه؟ وأما لماذا؟ فلا أعلم، وعلمي على لا شيء. وأما إلى أي حد يقف فنحيل الجواب على ما قاله رئيس القضاء في محكمة الاستئناف الاتحادية الدولية (المستر هايد) يقول: >باعتقادي أن كل طائفة أو مجموعة من البشر تسير في طريق الاضمحلال عندما يبدأ كل فرد منها ينظر إلى جاره نظرة عداء مستحكم. وينقسم أبناؤها على بعضهم البعض حول المسائل الدينية والسياسية، وتحل الوشايات والاتهامات المغرضة محل الحقائق، ولا يعود بإمكان المرء أن يجاهر بالإيمان الصحيح منزهًا عن الشوائب<. أما أسبابه ودواعيه فمرجعها الجهل والأمية:
الجهل لا يُبقي على أربابه
كالسيف ليس براحم لقتيله([9])
الجهل هو الذي أوجد الشعور بالنقص، وعدم الثقة بالمجتمع، وأخذ يبث سموم تفرقته عن لاوعي، ودون إحساس، حتى صرنا نسمع بين حين وآخر هذا قروي، وذاك مدني، وآخر ريفي، ولقد سمعت من بعض الشخصيات يقول: >إحنا أهل أرياف ما نريد أهل داخل< بل تغلغل إلى أكثر من ذلك؛ إذ قالت شخصية أخرى: >والله إحنا ابتلينا ابها الطفيسة< أي الشبيبة.
بالله قل لي أيها المستمع الكريم، من هو الريفي والمدني؟ أليسوا من دين واحد، وجنس واحد، ولغة واحدة، وبلاد واحدة، ومذهب واحد؟ ومن هم الشبيبة؟ أليسوا أبناء الشيوخ؟ أليس الآباء اليوم شبيبة لآبائهم من قبل؟ ما هذا التفرق، وعلام هذا الشقاق؟ إننا إذ نريد التوسع في الموضوع والاستقصاء يطول بنا الشرح، ولنكتفِ بهذا القدر والذي بقي علينا: هل نقدر على معالجة الوضع الراهن؟ نعم نقدر على ذلك ببسيط من الأمور منها:
– عدم معاكستنا لبعضنا البعض بحيث لو ارتأت جماعة موضوعًا اجتماعيًّا، وأحبت أن تقوم بعمل ما أو جمعية ما أو ما يماثل ذلك لا نقف في سبيلها لأنها لم تشركنا في موضوعها. إن هذا جهل وحماقة -والحماقة داء لا دواء له-
– ومنها تناسي العداء المستحكم، والخلاف القديم، وإذا هناك شيء فبين الأفراد خاصة فليست القضايا كلها >حرب بسوس<.
– ومنها إضعاف الأنانية الفردية، والتقليل من غلواء الفرد واعتداده بذاته، وأن يوسع الشيوخ مكانًا لأبنائهم الشباب ليقفوا معهم في القضايا، ويشاركوهم في شعورهم، ونضالهم الوطني، ويعترفوا بقيمتهم، وثقافتهم التي تفوق ثقافة هؤلاء.
وإن غدًا لناظره قريب(*)
————–
([1])ولد في عنيزة عام 1330 هـ، 1910م، حصلا على الثانوية من البصرة، وعمل بالديوان الملكي، ومنه نقل إلى البصر نائبًا للقنصل، ثم قنصلا فيها 1368هـ، ثم مستشارًا بوزارة الخارجية 1376هـ، ووكيلا لوزارة الخارجية، ثم سفيرًا في باكستان: 1377هـ، والهند: 1384هـ، والعراق: 1387 هـ، أفغانستان: 1392 هـ، وماليزيا: 1398 هـ. توفي يوم الخميس 13 /2/ 1409 هـ الموافق 27 /10/ 1988م. انظر: رجال في الذاكرة، عبد الله زايد الطويان، 1418هـ، جـ1/203 – 204.
([2])سياسي وكاتب ومؤرخ مغربي، ولد في مدينة فاس في 15 يونيو 1921، تعلم في الكتاب وتخرج منه في سن التاسعة، ونال شهادة العالِمية من جامعة القرويين (بفاس) سنة 1947، ثم عين أستاذًا بها سنة 1948، وحصل سنة 1953 على “بروفيه” معهد الدراسات المغربية، ثم على دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بالرباط سنة 1963، وعلى شهادة في اللغة الإنجليزية من معهد اللغات بمدينة بغداد سنة 1966، وفي سنة 1971 وعلى شهادة دكتوراه الدولة من جامعة الإسكندرية وموضوعها (جامعة القرويين).كان عضوا في العديد من المجامع اللغوية مثل المجمع اللغوي العراقي، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجمع اللغة العربية بالأردن، وعدة هيئات ومؤسسات مثل المعهد العربي الأرجنتيني، والأكاديمية الهاشمية بالأردن. له العديد ما يقرب من ثلاثين مؤلفًا منها: تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، وآداب لامية العرب، وأعراس فاس، وجولة في تاريخ المغرب السياسي. أنظر: (وداعًا أستاذ الأجيال عبد الهادي التازي، الطيب ولد العروسي، توفي في الرباط في 12/4/ 2015. صحيفة أثير العمانية الإلكترونية ، الأحد , 5 أبريل: 2015، وويكيبيديا.
([3])البيت لأحمد الصافي النجفي توفي في بيروت سنة 1977م.
([4])النجفي نشأة، وأما أصله فمن الأحساء. خطيب مفوَّه، يمتاز بالظرف والفاكهة. انظر الرابط:
https://chl.li/gPP8O
([5])ذكرى حجة الإسلام العلامة الإمام السيد ماجد العوامي القطيفي، المتوفي 1367هـ جمعها وألفها الخطيب السيد محمد حسن النجفي، قام بطبعها ونشرها الشاب الأديب السيد حسن السيد باقر العوامي القطيفي، المطبعة الحيدرية في النجف، الطبعة الأولى، 1369هـ، 1950م، ص: 3 – 4.
([6])أبو السعود زعيم في ذاكرة الوطن، راجعه وعلق عليه عدنان السيد محمد العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيرون الطبعة الأولى، 1431هـ، 2010م، ص: 49 – 55.
([7]) الأبيات لمعروف الرصافي من قصيدة ألقاها في حفلة تكريم أقامها المعهد العلمي أمين الريحاني عند زيارته بغداد، في أيلول (سبتمبر) 1933م، مطلعها:
إن العراق بعرضه وبطوله وبرافديه وباسقات نخيله
ديوانه، مراجعة مصطفى الغلاييني، نشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014، فصل السياسيات ص: 615.
([8]) هو: Gibb Hamilton Alexander Roskeen (1895 -)، مستشرق انكليزي، عني بدراسة التراث الإسلامي، وتعريف الغربيين به، له (دراسات في حضارة الإسلام). عدنان
([9])من قصيدة نفسها المار ذكرهاَ. عدنان
(*) هذا عجز بيت ينسب لقراد بن أجدع الكلبي، ولهدبة بن الخشرم، وهما جاهليان، وصلته:
فإن يكُ صدرُ هذا اليومِ ولَّى | فإنَّ غدًا لناظره قريب |
المراجع